بسم الله الرحمن الرحيم
حين يجلس الإنسان متفكراً في نفسه، وفي كل ما أنعم الله عليه من نعم لا يستطيع لها حصراً وعدّاً، كانت وما زالت تأتيه تترى وتحيط به وتغمره من كل جانب، لا يملك إلا أن يلهج بالثناء على الله قلبه، وينطق بالشكر لسانه، ويحيا بالتفكر عقله، فيسبّح بحمده في ذل وخضوع، ويعبده في تسليم وخشوع.. ولمَ لا وقد خلقه الله - تعالى -من تراب صار بعد النفخة الإلهية فيه بشراً سوياً يحمل بين ثناياً جسده الضعيف أعظم آيات الإعجاز الباهرة، وسراً من أسرار الحياة في دنياه العامرة، يحيا به بين سائر مخلوقات الله - عز وجل - وقد كُرّم وفُضّل عليها، كما قال - تعالى -: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على\" كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)(الإسراء).
وإذا به يتقلب في نعم مولاه ليل نهار من طور إلى طور ومن حال لحال! لتتحقق آية الخلق كل حين أمام الناس، وتكون المعجزة الكبرى غاية في الإعجاز.. وفي أنفسكم أفلا تبصرون 21(الذاريات).. إنها آية الإيجاد والتصوير وخلق الإنسان في أحسن تقويم...
قال ابن كثير: \"إنه خلق أباكم آدم من تراب فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظاماً على شكل إنسان، ثم كسا الله تلك العظام لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير، ثم خرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره، تكاملت قواه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض ويكتسب ويجمع الأموال، وله فكرة وغور، ودهاء ومكر، ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه، فسبحان من أقدرهم وسيّرهم وسخرهم، وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال - تعالى -: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون 20(الروم)\".
النعم مناط الشكر.. والجوارح محل التكليف
لذا فإن من يتقلب في نعمه - سبحانه وتعالى - ويحيا بها ومعها يجب عليه أن يسخر تلك الجوارح وذلك الجسد في طاعة مولاه، والسير على خطى حبيبه ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم -، إذ النعم مناط الشكر، والجوارح محل التكليف، وكل نعمة ممنوحة يقابلها واجب وحقّ، فهل فكرت يوماً أيها الإنسان في تلك النعم والعطايا التي تتنعم بها فامتلأ قلبك بحب المنعم الوهاب؟ وهل عرفت مهمتك واستشعرت مدى المسؤولية الملقاة على عاتقك حين وهبك الله - تعالى -إياها وتفضل عليك بسائر المنح؟
الأمانة كبيرة
جوارحك أيها الإنسان.. هل تعرف ما لها عندك وما عليها تجاه واهبها وموجدها؟ إن الله - تعالى -لم يخلق شيئاً عبثاً، - سبحانه وتعالى - هو القائل: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115(المؤمنون). وقد لفت أنظارنا لذلك وأشعرنا بعظم المهمة وحجم الأمانة التي سنسأل عنها حين قال: أيحسب الإنسان أن يترك سدى 36(القيامة). وأنت أيها المسلم كغيرك من البشر تمثل جوارحك جزءاً كبيراً من مكونات جسدك وبدونها لا تكون شيئاً، فالقلب هو زعيمها، والعقل مستشاره وناصحه الأمين وطبيبه الرحيم، أما الجوراح من يدين ورجلين، وعينين وأذنين، وبطن ولسان، فهي جنوده وحراسه، والجسد كله شعبه وتابعه، وعدته وعتاده، والجميع شاهد على حركات سيدهم وسكناته، رغم أن الكل يمشي وراءه ويتبع خطواته، لذلك فإن صلاح الجوارح والجسد كله متعلق بصلاح ذلك القلب! \"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب\" متفق عليه. فهل وعيت ذلك لتفوز وتسعد..
صفقة العمر قبل الفوات
إن باستطاعتك أن تبرم مع تلك الجوارح صفقة العمر في شهر رمضان، فتدفع لها ثمناً زهيداً من حسن السير والسلوك لتقبض ربحاً وفيراً بلا نقص أو خسران، بدلاً من ضياع الفرصة أمام ناظريك، وذهاب العمر من بين يديك، وفوات الأجر عليك.. كما أن بإمكانك أن تعقد معها عقد صلح وسلام دائمين في شهر الصيام وفي سائر أيام العام فتأمن بذلك مكرها، وتحبط كيدها، وتكسب ودّها، لتكون شاهدة معك ولك، لا ضدك وعليك، بدلاً من إذكاء نار المعصية فيها فتحرقك وتحرق معها أمانيك وأحلامك..في يوم تنطق فيه أمام الملك الحق العدل يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون 24 يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين 25(النور). فانظر أيها الإنسان أي طريق تسير، وأي عمل تختار، وإلى أي مصير تصير..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد