إلى من لم يغرسوا الرحمة في قلوبهم بعد


  

بسم الله الرحمن الرحيم

روى مسلم في صحيحة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو أملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة\" وفي رواية \"إن كان الله نزع من قلبك الرحمة\" صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صحيح البخاري)

 

الرحمة صفة معنوية، تظهر آثارها على الجوارح في التعامل مع الغير، والمتصف بالرحمة متخلق بأخلاق الله - عز وجل - فالله هو الرحمن الرحيم، والمراد بالرحمة لغة: الرقة والتعطف، يقال استرحمت فلاناً: أي استعطفته، وتراحم الناس تعاطفوا، وهي في جوهرها: القدرة على إيصال الخير للخلائق، ويقابلها، الغلظة والفظاظة والشدة.

 

والحديث الشريف حلقة في سلسلة من النصوص الدينية، تحض على الرحمة والرفق، وتنفر من الفظاظة والغلظة، في أسلوب بليغ، توحي صياغته بما أثاره كلام الأعراب في نفسه - عليه السلام - من استنكار وتعجب، بسبب جفائهم، ونضوب الرحمة من قلوبهم كما أن الحديث الشريف يتسم أيضاً بالإيجاز، حيث حذف ما لا يحتاج إليه لفهمه من السياق، والبلاغة الإيجاز.

 

بدأت السيدة عائشة - رضي الله عنها - رواية الحديث بذكر المناسبة التي ورد فيها، فقالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فرد عليهم من كان عند الرسول - عليه السلام - قائلين: نعم نقبل، فقال الأعراب: لكننا والله ما نقبل..ويلاحظ حرصهم على تأكيد كلامهم بالقسم بالله، كأنهم يريدون أن ذلك أمر لا نأتيه أبداً، وفي ذلك ما يوحي بما هم عليه من جفاء وغلظة، تصور لهم أن تقبيل الأولاد ضعف لا يليق بالرجال، وعندما سمع الرسول - عليه السلام - ذلك، قال للمتحدث: \"أوأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة\" وفي رواية \"إن كان الله نزع الرحمة من قلبك\".

 

والهمزة الأولى في قوله \"أو أملك\" للاستفهام، لكن الاستفهام بها لا يراد به السؤال عن مجهول، وإنما هو استفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى: إني لا أملك، أي: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه، والاستفهام وإن كان للإنكار بمعنى النفي لكنه يوحي أيضاً بغضب الرسول - عليه السلام - مما هم عليه من قسوة قلوبهم، فالمسلم لا يكون على هذا النحو من الغلظة، أما تعبيره - عليه السلام - بلفظ \"نزع\" في قوله: \"إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة\" فلأنه لفظ مصور للمعنى، وكأن الرحمة شيء حسي انتزع من القلب واستؤصلت جذوره، ولا يخفى ما في ذلك من إيضاح للمعنى ومبالغة فيه.

 

والحديث الشريف تظاهره الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الكثيرة يقول - سبحانه وتعالى - عن نبيه - عليه السلام -

{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر (آل عمران: 159)

 

ويقول - سبحانه - أيضاً: {فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة * أولئك أصحاب الميمنة (البلد: 11-18)

 

ومن الأحاديث قوله - عليه السلام - للأقرع بن حابس: \"من لا يرحم لا يرحم\" وذلك عندما رأى الحابس رسول الله يقبل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - فقال: إن لي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم. وإذا كان الإسلام يرغب في التخلق بخلق الرحمة كل هذا الترغيب، فلا يعني هذا أن الغضب والحدة لا مكان لهما في الحياة، فالله- تبارك وتعالى -أمدّ فطرة الإنسان بما يمكنه من مواجهة كل تقلبات الدنيا، فأمده بغريزة الغضب، ليدافع بها عن المحارم إذا انتهكت وعن الحقوق إذا استبيحت، دون تجاوز أو تجبر، فالواجب وضع الأمور في مواضعها، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أشد ميلاً، كانت الحاجة إلى الترغيب في جانب التراحم والرفق أكثر، فالذي يعنف في موطن يوجب الملاينة، مثل من يلين في موقف يستوجب الشدة، وقد قيل:

ووضع الذي في موضع السيف بالعلا ***يضر كوضع السيف في موضع الندى 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply