بسم الله الرحمن الرحيم
راقبته وتبعته إلى منزله، اختفى وحيداً في زاوية خفيّة، بدا ككتلة غائبة الملامح، جال بصري في أرجاء بيته الرّقيق، لم ألمح أثاثاً ولا غرفاً، بل لمحت أشياءَ كثيرة أعادتني راضية، فقد أحسن ضيافتي لما سمح لي بتأمل صنيعه.
لقد نظرتُ إلى بيت العنكبوت كبناء..
فوجدته من أبدع البيوتِ جمالاً، وأتقنها صنعاً، وأروعها فنّاً..
وقد لهج لساني تسبيحاً وأنا أراقب فنّه، كنحّاتٍ, ينحتُ قطعته الفنّية الأبدع، أو فنان يرسم بريشته رؤاه الأغلى، وكأنه يبذلُ من نفسه كلّ نفسه كي يبني بيته، ويأوي إليه، وبذكاء خارق يرسم خطّته، ويصطاد بين شباكه ضحيّته، مهما ثقل حجمها، فإنها تعلقُ بسهولة بين شباكه، ليعود هانئاً بما حقق من غنائم، فيرتاح باله بما أنجز.
فسبحان المبدع الخلاّق.
أما عن وهن هذا البيت وضعفه، فقد ضربت بهذا الأمثال، وكان من آي الذكر الحكيم آية تحدثت عنه، فشبهت الذين يتخذون من دون الله أولياء يحبونهم، وتمتلئ قلوبهم بهم، فيبتعدون عن الحب الأسمى حب الله ورسوله، شبههم كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً لتحتمي فيه ظناً منها أنه الملجأ الآمن، فلم تدرك بأنها بنت بيت بالغ الوهن، ليس أسهل ولا أهون من خرابه وتدميره.
قال - تعالى -: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) سورة العنكبوت آية رقم 41
فذلك مثل من عمل عملاً يظنه عمل خير وصلاح، ويمضي عمره في إنجازه، ليكتشف في نهاية الرحلة أنه بنى خراباً. والله المستعان.
ومما ورد حول تفسير الآية الكريمة: تفسير الجلالين:
\" (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) أصناما يرجو ننفعها (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) لنفسها تأوي إليه (وإن أوهن) أضعف (البيوت لبيت العنكبوت) لا يدفع عنها حرا ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها (لو كانوا يعلمون) ذلك ما عبدوها. \" وكم نأوي إلى بيوتٍ, نظنها مكان أمن وحماية وطمأنينة، فيباغتنا الخطر على حين غرّة ويدمر كل ما بنيناه!
وفي تفسير ابن كثير:
\" هذا مثل ضربه الله - تعالى -للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في الشدائد فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت فإنه لا يجدي عنه شيئا فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله وهو مع ذلكي حسن العمل في اتباع الشرع فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها. \"
وعلى هذا الأساس يعمر الإنسان قلبه بنياناً متيناً يغمره النور فلا يقتله الوهن، ولا تغمره الظلمة فيغدو مثل قبر.
قلبٌ قد اغبرّ لكثرة الذنوب والمعاصي، فشحب لونه، واسودت عند الله صحيفته، وعششت به عناكب الخطيئة، وأخذت تقتاتُ على نوره. رأيته قلباً أشبع غفلة، أهمله صاحبه وتركه مهجوراً.
لم يحاول غسله بماء التوبة، ولم يعمل على تطهيره.
لم يذرف دمعة تحييه، وتخرب بيت العنكبوت، ولا استجار بالله كي يهيئ له أهل الخير فيعينوه.
إنه قلب آثم، لكن صاحبه لا يراه، قد غرته المعاصي، واعتاد البعد عن الله.
وليته يرى ظلمته، وينفر من وحشته، فيعود إلى تجديد عهد وتوبة فيتماسك البناء من جديد.
وعموماً فقد أسعدتني طرقات خجولة على باب مخلوقٍ, ضعيف، لكنه فنان بحق! وعرفت بأنني لن أستطيع أن أسكب خطراتي كلها في زيارة، فوعدته بزيارات أخرى، وغدوت أردد في قلبي بإيمانٍ, تجدد:سبحان الخلاق العظيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد