بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فحديثي إليكم هو عن نعيم الأبرار، والأبرار هم القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، الملازمون للبر في أعمال القلوب، وأعمال الجوارح(1)، المنقادون لأوامر الله، وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهؤلاء قد أخبر الله في آيتين كريمتين في كتابه بأنهم في نعيم، نعيمٍ, في القلب، والروح، والبدن، في دار الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار القرار(2).
ولكني لن أتحدث عن النعيم في دار البرزخ في القبر، حيث يُفسحُ للمؤمن في قبره مدٌّ بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، ولا عن النعيم في دار القرار، حيث الخلود في الجنان عند المليك الرحمن.
1- نعيم الدنيا
ولكن حديثنا سيكون عن نعيم الأبرار في دار البوار، في هذه الدار الفانيةº لأن بعض الناس قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما هم فيه من الفقر، وما يحرمونه من متاع بعض الدنيا، مما يتلذذ به الكفار، أو الفجار، وما يصيب كثيرًا من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال، وسعة الرزق، ولذة العيش، وغير ذلكº فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليل(3).
وإذا كان كل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته، فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد، فمن شأن الإنسان العاقل، الذي يحس ويتألم ويتلذذ، أن يطلب التنعم والتلذذ، وأن يتذوق طعم النعيم، وهل يمكن أن يبقى محرومًا في الدنيا من النعيم لأنه مسلم، أو مؤمن؟
هل يكتب على المتقين والمستقيمين أن يُحرموا من نعيم الدنيا؟! وأن يروا الناس من حولهم يتنعمون، وهم يتنغصون؟!!
هل من المعقول أن تبقى حياة المؤمن في الدنيا بلا نعيم، وبلا لذة؟!!
كيف يخبر الله في هذه الآية بأن الأبرار في نعيم، ويؤكد هذا الخبر بـ(إن)، وبـ(اللام) في (لفي)، ثم يكون الواقع بخلاف ذلك؟!!
ألا يوجد نعيم في الدنيا يتنعم به المؤمن، قبل نعيم الآخرة؟!!
هل كان يوسف - عليه السلام - في نعيم حين آثر السجن على موافقة أهواء النسوة؟ كيف لو أنه سايرهن، وعاش في أحضانهن؟ ألم يكن سيشعر بالنعيم؟ وهل سينال تلك العاقبةَ الحميدة؟
هل كان بلال وعمار، وأمه سمية، وأبوه ياسر، وصهيب، وغيرُهم من ضعفاءِ المسلمين في نعيم، وهم يعذبون عذابًا لا يمكن تصوره، ولا يطاق تحمله؟
هل كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعشن في نعيم، وقد كان يمر الشهر والشهران، ولا يوقد في بيوتهم نار؟
أيٌّ نعيم كُنَّ فيه، حتى اختاروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الدنيا وزينتِها حين قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ قُل لأزوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدنَ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعكُنَّ وَأُسَرِّحكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلمُحسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجراً عَظِيماً (29)} [سورة الأحزاب 33/28-29].
وهل من انحرف عن الصراط، وغرِقَ في زينة الحياة، يعيش في نعيم؟
وإذا لم يكن متنعمًا، فما هو النعيم في الدنيا إذًا؟
2- ما هو النعيم؟!
النعيم كلمة واحدة، لكنها تظم معاني كثيرة، فالنعيم هو الفرح والسرور، والدعة والمال، والمسرة والترفٌّه، وحسن العيش والغذاء، والعطية أو الهدية الحسنة، وليونة الشيء(4).
هذه معاني النعيم في لغة العرب، وقد تناولت كل مظاهر التنعم في الدنيا، ما كان منها في القلب، أو البدن.
لكن النعيم يشترط له شرط مهم، حتى يكون نافعًا وحقيقيًا، وهو أن تكون نهايته سعيدةً ومثمرة، فلو عَرَضَ لك شخصٌ أنواعًا لذيذة من المطاعم والمشارب، وقال لك: كل ما شئت، ولكن ستكون نهايتُك الإصابةَ بمرضين خطيرين: ارتفاعِ الضغط، والسكر.
فهل ستقدم على الأكل والشرب؟ يختار العقلاء أن يأكلوا ويشربوا قليلاً، ويعيشوا بسلام وصحة، على أن يأكلوا ويشربوا كثيرًا، ويمرضوا بأمراض خطيرة.
ولو أن امرأة جميلة، تتصاغر أمام جمالها الورود والأزهار في الحديقة الغناء، ويذِل لها من حسن منظرها البدر، لم تتصنع في جمالها بالزينة المزيفة في عصرنا، لو أن هذه المرأة عرضت على رجل نفسها، لكنها قالت له: إني مصابة بمرض خطير، يصيب كل من يعاشرنيº فهل سيقدم على مواقعتها، حتى وإن تنعم وتلذذ بمنظرها، ولَثمِ ثغرها؟!
ألا تشبه الدنيا هذه المرأةَ الجميلة، والطعامَ والشرابَ الفاخرين؟ ما هي نهاية الدنيا؟ وماذا يكون بعدها؟
أليس هذا سؤال يحتاج منا إلى التفكر؟
والجواب الذي نجد دليله، ونحس بموافقته للفطرة والعقل أن الدنيا دارُ ممر لا مقر، وأنها ظلٌ زائل، كما قال – تعالى- : {اعلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُم وَتَكَاثُرٌ فِي الأَموَالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيثٍ, أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ (20)} [سورة الحديد 57/20]
وأن النعيم التام هو في الدين الحق، فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم الكاملº لأنهم مع استمتاعهم بالدنيا وزينتها الظاهرة، فهم ينتقلون عنها إلى خيرٍ, منها، حيث يكون مصيرُهم رضوانَ الله وجنته، وعفوَه ومغفرتَه، كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضَّالِّينَ (7)} [سورة الفاتحة 1/6-7].
وقوله عن المتقين المهتدين: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِم وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ (5)} [سورة البقرة 2/5]،
وقوله - تعالى -: {قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعاً بَعضُكُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلٌّ وَلا يَشقَى (123) وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى (126)}(5).
لكن وقع الجهل والظلم في بني آدمº فعمدوا إلى الدين الفاسد، والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم، وفي الحقيقة فإنما فيهما ضدٌّه.
قال - تعالى -: {أَيَحسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدٌّهُم بِهِ مِن مَّالٍ, وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُم فِي الخَيرَاتِ بَل لاَّ يَشعُرُونَ (56)}.
وقال - تعالى -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ, حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مٌّبلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
وفي الحديث: ((إذا رأيت الله يُنعم على العبد مع إقامته على معصيته فإنما هو استدراج يستدرجه))(6).
3- محل النعيم في القلب والبدن تابع
القلب والبدن هما محل التنعم، لكن القلب هو الأصل في ذلك، والبدن تبع له، ولا يمكن أن يسعد بدنٌ قلبُ صاحبه بائس حزين منكسر، حتى وإن ظهر بين الناس بمظهر الفرِحِ المسرور، لكنه في الحقيقة يعيش همًا لا ينقطع، ونكدًا لا يتوقف، وصراعًا يمزق عقله، ويعصف بمشاعره، ويُحرِق عواطفه.
وإذا تنعم القلب واطمأن، وتذوق طعم اللذة والرضى، فإنه ينقلب ذلك بالنعيم على البدن، ويشعر الإنسان براحة في بدنه، وسعادة في حياته، حتى وإن كان مصابًا في بدنه.
قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم ما مالك؟ قال: خيرُ مالٍ, ثقتي بالله، ويأسي مما في أيدي الناس(7).
ولما قيل لابن تيمية في مسيره إلى الحبس في الإسكندرية: \"يا سيديº هذا مقام الصبر\"، قال(8):
\"هذا مقامُ الحمدِ والشٌّكر، والله إنه نازلٌ على قلبي من الفرحِ والسٌّرور شيءٌ لو قُسِم على أهلِ الشامِ ومِصرَ لفَضَِل(9) عنهم، ولو أنَّ معي في هذا الموضعِ ذهبًا وأنفقته، ما أديت عُشرَ هذه النعمة التي أنا فيها\".
إذًا أعظم معاني النعيم سرور القلب وراحته، وانشراحه وأنسه، وبذلك يستطيع البدن أن يتذوق طعم الحياة، وأن يتلذذ بما على وجه الأرض من الطيبات.
4- بين هرقل وصاحبه الحبر العالم
لم يكن هرقل ملكًا للروم فقط، بل كان عالمًا من علمائهم، متدينًا، عارفًا بالإنجيل، ومحاورته لأبي سفيان تدل على ذلك، حيث قال في نهاية المحاورة: ((فَإِن كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَملِكُ مَوضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَينِ، وَقَد كُنتُ أَعلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَم أَكُن أَظُنٌّ أَنَّهُ مِنكُم، فَلَو أَنِّي أَعلَمُ أَنِّي أَخلُصُ إِلَيهِ، لَتَجَشَّمتُ لِقَاءَهُ، وَلَو كُنتُ عِندَهُ لَغَسَلتُ عَن قَدَمِهِ)). رواه البخاري.
ومع هذه المعرفة، وما وقع فيه قلبه من صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه هو الذي بشر به عيسى - عليه السلام -، لم يُسلم هرقل، ولكنه كَتَبَ إِلَى صَاحِبٍ, لَهُ بِرُومِيَةَ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلمِ، يسأله عن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وَسَارَ هِرَقلُ إِلَى حِمصَ، فَلَم يَرِم حِمصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِن صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأيَ هِرَقلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِيُّ.
فماذا فعل هرقل، وماذا فعل صاحبه؟
أما صاحبه العالم، فإنه قال: هذا والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، هذا الذي كنا ننتظر، وإني مصدقه ومتبعه، فدخل فألقى ثيابًا سودًا كانت عليه، ولبس ثيابًا بيضًا، ثم أخذ عصاه، فخرج على الروم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله، وإني أشهد ألا إله إلا الله، وأن أحمد عبده ورسوله، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه، حتى قتلوه(10).
أما هرقل فلما رأى ما فعل الروم بصاحبه، وكان أعظم في نفوسهم من هرقل نفسه، خاف على نفسه، وآثار الحياة الدنيا، وأراد أن يعرف موقف قومه من تصديقه بمحمد ‘، فَأَذِنَ لِعُظَمَاءِ الرٌّومِ فِي دَسكَرَةٍ, لَهُ بِحِمصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبوَابِهَا فَغُلِّقَت، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعشَرَ الرٌّومِ هَل لَكُم فِي الفَلَاحِ وَالرٌّشدِ، وَأَن يَثبُتَ مُلكُكُم، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيصَةَ حُمُرِ الوَحشِ إِلَى الأَبوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَد غُلِّقَت، فَلَمَّا رَأَى هِرَقلُ نَفرَتَهُم، وَأَيِسَ مِن الإِيمَانِ، قَالَ: رُدٌّوهُم عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَختَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُم عَلَى دِينِكُم، فَقَد رَأَيتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأنِ هِرَقلَ(11).
نهايتان متغايرتانº الأول عضوه وضربوه، حتى قتلوه، والثاني سجدوا له وعظموه، فأيهما كان متنعمًا؟
5- ماذا قال النبي لخباب في مكة، ولعمر بن الخطاب في المدينة؟
لاقى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة وعناء في مكة، حتى كان الرجل يفتن في دينه من شدة العذاب والنكال، وهذا الوضع المؤلم حمل خبابًا على أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُردَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الكَعبَةِ فيقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَدعُو اللَّهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحمَرُّ وَجهُهُ، فَقَالَ: ((لَقَد كَانَ مَن قَبلَكُم لَيُمشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحمٍ, أَو عَصَبٍ, مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ، وَيُوضَعُ المِنشَارُ عَلَى مَفرِقِ رَأسِهِ فَيُشَقٌّ بِاثنَينِ مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعَاءَ إِلَى حَضرَمَوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئبَ عَلَى غَنَمِهِ))(12).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لخباب إن العبرة بالنهاية، وما يصيبك من البلاء فقد أصاب من قبلك، وماذا يضيرك إذا كنت على الحق، وقد وجدت طعم الإيمان، وبرد اليقين، أن يصيب بدنك ما يصيبه، فإياك والعجلة، والرجوع عن الحق لأجل ما ترى من البلاء، والنصب والتعب، فإن ما معك من الإيمان واليقين خير وأبقى.
ثم في المدينة، كان الناس في ضيق من العيش، وقلة ذات يد، وخوف من العدو، يبيت الرجل ويصبح وسيفه معه، وقد كثر الأعداء، من اليهود، والمنافقين، والكفار، ثم هذا عمر يدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ,، يقول عمر: فَجَلَستُ فَأَدنَى عَلَيهِ إِزَارَهُ، وَلَيسَ عَلَيهِ غَيرُهُ، وَإِذَا الحَصِيرُ قَد أَثَّرَ فِي جَنبِهِ، فَنَظَرتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا أَنَا بِقَبضَةٍ, مِن شَعِيرٍ,، نَحوِ الصَّاعِ، وَمِثلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الغُرفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ. قَالَ: فَابتَدَرَت عَينَايَ. قَالَ: مَا يُبكِيكَ يَا ابنَ الخَطَّابِ؟ قُلتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَمَا لِي لَا أَبكِي وَهَذَا الحَصِيرُ قَد أَثَّرَ فِي جَنبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيصَرُ وَكِسرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنهَارِ، وَأَنتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ! فَقَالَ: يَا ابنَ الخَطَّابِ أَلَا تَرضَى أَن تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ، وَلَهُم الدٌّنيَا؟! قُلتُ: بَلَى(13).
ما أعظم هذا السؤال: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟! والله - جل وعلا - يقول: {اللَّهُ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدٌّنيَا وَمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26)} [سورة الرعد 13/26].
وفي رواية عند البخاري قال: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادعُ اللَّهَ فَليُوَسِّع عَلَى أُمَّتِكَº فَإِنَّ فَارِسَ وَالرٌّومَ قَد وُسِّعَ عَلَيهِم، وَأُعطُوا الدٌّنيَا، وَهُم لَا يَعبُدُونَ اللَّهَ، فَجَلَسَ النَّبِيٌّ ‘ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَوَفِي هَذَا أَنتَ يَا ابنَ الخَطَّابِ؟! إِنَّ أُولَئِكَ قَومٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ استَغفِر لِي.
إنه درس نبوي عملي، أن النعيم ليس في كثرة المتاع، ولا اتساع العيش، ولكنه في الوصول إلى الهدف الحقيقي من هذه الحياة، وفي المعرفة الحقيقية بالغاية التي خلقنا من أجلها.
6- مظاهر النعيم
إذا كان النعيم الذي نتحدث عنه يتناول نعيم البدن، والقلبº فإن المؤمن في هذه الحياة يتمتع بكل أنواع النعيم الظاهرة والباطنة.
1- معرفةُ الله معرفةَ إقرار، وتصديق وإيمان، وانقطاع إليه، وأنس به، وطمأنينة بذكره، قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله - عز وجل -.
وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟! فقال: كيف أستوحش، وهو يقول: ((أنا جليس من ذكرني))!.
وقيل لآخر: نراك وحدك؟ فقال: من يكن الله معه كيف يكون وحده؟
وقيل لآخر: أما معك مؤنسٌ؟! قال: بلى، قيل له: أين هو؟ قال: أمامي، ومعي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي.
إذا نحن أدلجنا وأنت أمَامَنا *** كفى لمطايانا بذكراك هاديً(14).
2- انشراح الصدر، يقول الله - تعالى -: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ (125)}.
ويقول - جل وعلا -: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ, مِّن رَّبِّهِ فَوَيلٌ لِّلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ, مُبِينٍ, (22)} [سورة الزمر 39/22].
إن انشراح الصدر هو اتساعه وانفساحه، بسبب استنارته بنور الإيمان، وحياته بضوء اليقين، فتطمأن بذلك النفس، وتحب الخير، ويطاوعه البدن على فعله، متلذذًا به، غير مستثقل، ولا متكاسل، ولا متوان.
أما من أضله اللهº فهو ضيق الصدر، يحس بالحرج والعنت، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، ولا ينشرح لفعل بر.
فهل يستوي من كان منشرح الصدر، قرير العين، يعرف بدايته ونهايته، مرتاح النفس، هادئ البال، إن أعطي شكر، وإن مُنِع صبر، ومن كان قاسي القلب، ضيق الصدر، لا يعرف إلا دنياه، ولا يبصر إلا نعيم بدنه، إن أُعطِي بطَرَ وكفَرَ، وإن مُنِع سخِط وضجِر؟ {أَفَمَن يَمشِي مُكِبّاً عَلَى وَجهِهِ أَهدَى أَمَّن يَمشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ,} [سورة الملك 67/22].
وبهذا الانشراح يحيى المؤمن حياة طيبة، يشكر ربه فيها عند السراء والنعماء، ويصبر عند البأساء والضراء، ويعمل الخير يرجو ثواب الله، كما قال - تعالى -: {مَن عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (97)} [سورة النحل 16/97].
3- موافقة الفطرة والعقل.
الناس مفطورون على معرفة الحسن والقبيح، ومحبة الخير، وكراهية الشر، ومحبة الحق والبحث عنه، والأحكامُ الشرعية جاءت موافقة لذلك، وقد وضع الله في القلوب الميلَ إلى أحكامه وشرائعه، وإيثارَ الحق على الخلق، {فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ (30)}.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد