بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:
فإنها لفرصة عظيمة أن نلقي الضوء على جانب عظيم، ومهم جداً من جوانب الإيمان، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب التي غفل كثير من الناس عن أهميتها، وحال هذه القلوب من التزكية، فإذا صلحت هذه القلوب فإن الحال يكون كما في الحديث: [إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلٌّهُ وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلٌّهُ أَلَا وَهِيَ القَلبُ] رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد. وهذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب، ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم - أنه: [دَعوَةُ إِبرَاهِيمَ] رواه أحمد. ودعوة إبراهيم هي قوله: {رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (129) سورة البقرة،
فإبراهيم - عليه السلام - دعا الله: أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأهداف. وقد استجاب الله - سبحانه وتعالى - دعوة إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ} (2) سورة الجمعة، ونلحظ هنا أن التزكية تقدمت على التعليم ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الهدى الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا من باب تقديم الغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية، فالأصل: هو تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنظُرُ إِلَى صُوَرِكُم وَأَموَالِكُم وَلَكِن يَنظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم] رواه مسلم.
حياة القلب وموته: فالحياة: حياة القلب، والموت: موت القلب، والمرض: مرض القلب، ولذلك نجد آيات كثيرة تتحدث عن أعمال القلوب وتبين لنا أهمية القلب فمثلاً، لما جاء الأعراب، وقالوا: {قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُل لَّم تُؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم} (14) سورة الحجرات، فالأعراب أسلموا بمعنى: حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار، والتصديق بالقلب، ولكن لم يصل القلب بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم} سورة الحجرات، والتقوى أيضاً هي تقوى القلب، كما قال الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ} (32) سورة الحج، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: [التَّقوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ,] رواه مسلم، وأحمد. والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت.
أقسام القلوب: القلوب تسلم، أو تقسو، أو تمرض:
أما سلامة القلوب: فكما في قول الله: {يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ, (89)} سورة الشعراء، أي: خالص متجرد من الشرك، أو النفاق، أو الرياء. ويقول الله عن سلامة القلب: {إِذ جَاء رَبَّهُ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,} (84) سورة الصافات، فإبراهيم - عليه السلام - حقق ذلك، ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإقتداء بهº لأن قلبه - عليه السلام - سلم من الشرك، ومن الولاء لغير الله، ومن المداهنة، أو الرياء، أو النفاق، فخلص، وتجرد، وتطهر لله وحده لا شريك له.
وأما مرض القلب: فكمـا قال الله: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارتَابُوا أَم يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيهِم وَرَسُولُهُ} (50) سورة النور، وقال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} (10) سورة البقرة، فالقلوب إذن هي التي تطمئن، وتسلم من المرض، فتكون كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنٌّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكرِ اللّهِ تَطمَئِنٌّ القُلُوبُ} (28) سورة الرعد.
وأما موت القلب: فإنه إذا اشتد به المرضº حصل الموت، والموت: هو القسوة كما في قول الله: {ثُمَّ قَسَت قُلُوبُكُم مِّن بَعدِ ذَلِكَ} (74) سورة البقرة، وفي قوله - تعالى -أيضاً: {فَوَيلٌ لِّلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم} (22) سورة الزمر.
أعمال القلوب: الأعمال القلبية كثيرة جداً منها:
الوجل: كما في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلَى رَبِّهِم رَاجِعُونَ} (60) سورة المؤمنون، وفي قوله - تعالى -: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا} (2) سورة الأنفال.
وهي قطعاً محلها القلبº ولذلك يقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا ُحِبٌّونَهُم كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدٌّ حُبًّا} (165) سورة البقرة، ويقول: {قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم} (31) سورة آل عمران.
الإخلاص: وبالإخلاص يكون الفارق بين المؤمنين وبين المنافقين، فإذا أردنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين فالصدق والإخلاص أساس ذلك وهما أعظم أعمال القلوب ومعهما المحبة واليقين، قال - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (5) سورة البينة.
الإخبات: وهو دليل على كمال الانقياد والإذعان، و الإخبات هو: الخضوع الكامل المطلق، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى، فهو مسلم كما قال الله - عز وجل -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا} (65) سورة النساء.
الإنابة: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُم وَأَسلِمُوا لَهُ} (54) سورة الزمر، الإنابة ومعناها قريب من معنى الإخبات، و أناب في اللغة معناه: عاد ورجع، فالإنابة: أن يعود الإنسان ويرجع إلى الله رجوعاً كلياً متجرداً خالصاً لله، يرجع عن كل ما لديه من أهواء، و شهوات، ونوازع ويجعل همه هو رضاء الله.
الخشية: العلماء بالله هم الذي يخشون الله، كما قال - تعالى -: {إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (28) سورة فاطر، ولا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله.
الخشوع: {أَلَم يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ} (16)سورة الحديد.
الفرح: {قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا} (58)سورة يونس.
كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب؟ الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم، والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى، وأقاموه علماً وعملاً، علموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحهº ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمة وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم. أما في العصور المتأخرة لأهل السنة والجماعة فإنه اعتراهم قدر من الضعف، وانحسر مفهوم شهادة أن لا إله إلا الله، ولم تعد بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها القرون الثلاثة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من يدرك شروط لا إله إلا الله؟ وما هي شروط لا إله إلا الله؟ شروطها: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، إذاً رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ: \"لا إله إلا الله\" تقتضي هذا وهذه شروطها وأساسيات الإيمان.
موقف أهل البدع من أعمال القلوب
الطائفة الأولى: أهل الكلام، فهذا هو الجويني يقول: إن الإيمان هو التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح. وإذا تجرد التصديق عن العمل، عن بقية أعمال القلب والجوارحº فإنه يصبح في الحقيقة علماً مجرداً أو معرفة مجردة لا أكثر ولا أقل، فترتب على هذا الكلام خطر عظيم، وهو الواقع في أحوال المسلمين اليوم، فإنهم اعتقدوا أن الكفر هو التكذيب، ما دام أن الإيمان هو التصديق، أو الصدق، فإن الكفر هو التكذيب، فمن اعتقد أن الله حق، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فقد صدق وهو مؤمن، فأهملوا التوكل والاستعانة واليقين والإخلاص...وغير ذلكº فاستُعين بغير الله، واستُغيث بغير الله، ودُعي غير الله، وعُبد غير اللهº فامتلأت بلاد العالم الإسلامي بالقبور، والأضرحة، والمشاهد، والمزارات، وأصبح الناس يتقربون ويطوفون ويدعون ويبتهلون ويتضرعون ويذبحون ويهدون، وكل هذه الأمور تقع، وإذا قلت: هذا شرك، وهؤلاء يقعون في الشرك، قالوا: أين الشرك، أين الكفر؟ لأنهم تعلموا أن الكافر هو الذي كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤمن به، وهذا يطوف... يدعو... يستغيث، ويذبح لغير الله... للولي... للشيخ، لكنه مصدق!!!
الطائفة الثانية: والتي انحرفت انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب: وهم الصوفية وما أدراك ما الصوفية؟ الصوفية في الحقيقة لم يهملوا أعمال القلب، بل انحرفوا فيها انحرافاً عظيماً، فهم من جنس الضالين. فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب، ولكن كيف يفهمون أعمال القلوب؟ التوكل مثلاً هل فهموه على حقيقته؟ ماذا يعتقد الصوفية في التوكل؟ هو التواكل، التواكل، وترك الأخذ بالأسباب: مثلاً يريد أن يذهب من بغداد، أو من خراسان إلى بيت المقدس، فيخرج في البرية من غير زاد، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء... هذه الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، فسبحان الله! كيف حال الأمة الإسلامية لو كانت أخذت بذلك؟ لو أخذت بذلكº لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهم، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل. ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينفعنا وإياكم بما نسمع ونقول إنه سميع مجيب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد