بسم الله الرحمن الرحيم
خرج عبدا لله بنُ دينار مع عبد الله بنِ عمر - رضي الله عنهما - إلى مكة، قال: فعرسنا، فانحدر علينا راع من جبل، فقال له ابن عمر: أراع؟ قال: نعم. قال: بعني شاة من الغنم. قال: إني مملوك، قال: قل لسيدك أكلها الذئب. قال: فأين الله - عز وجل -؟ قال ابن عمر: فأين الله!!! ثم بكى، ثم اشتراه بعد فأعتقه، واشترى له الغنم. ذكر الإمام الذهبي هذه القصة في ترجمة ابن عمر - رضي الله عنهما -. لقد كان الغلام تقيا، وسأل ابن عمر سؤالا نقيا، لا يسأله إلا الصالحون، ولا يقع إلا في قلوب المتقين، تاقت أنفسهم للفوز والنجاح، وعمرها البر والصلاح، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. أين الله..أين من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور..أين الخالق الذي يعلم السرائر وما تخفيه الضمائر، وإليه عاقبة الأمور؟ أين الله، الرقيب الحسيب؟ الحفيظ الشهيد؟ السميع البصير، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى. أين الله يراقب عبده، ويحصي عليه أقواله وأفعاله؟ إخوة الدين والعقيدة: إن المؤمن إذا استشعر اسم الله - تعالى -{الرقيب} أيقن أن حركاته الظاهرة، والباطنة قد أحاط الله بها علما، فاستحيا منه أن يراه في موطن لا يحب أن يراه فيه، واستحيا منه أن يفقده في موضع يحب أن يراه فيه. واستشعار هذا الاسم العظيم يملأ القلب بجنود تحرسه من الغفلة، ويوصله إلى مقام الإحسان، فكأنه يرى الله، ويستيقن بأن الله يراه. فالمراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق- تبارك وتعالى -على جميع أحواله ما ظهر منها وما بطن، يسمع كلامه، ويرى مكانه، لا تغيب عنه طرفةُ عين منه ولا أقل من ذلك. أين الله.. سؤال تقشعر منه جلود المتقين، وتخضع له قلوب المحسنين، وهو شعار يرفعه الأخفياء غابت أجسادهم عن الخلق، فلا تنظر إليهم عين مخلوق، ولا يسمع همس شفاهم أذن متنصت، فإذا دعتهم النفس الأمارة بالسوء إلى معصية، تردد في خلجات نفوسهم هذا السؤال.. أين الله.. أين من يرانا.. أين من لا نستطيع الهروب من رؤيته وعلمه.. وصدح في أذانهم قول الحق- تبارك وتعالى -: إن الله كان عليكم رقيبا. فلما علموا أن الله عليهم رقيب، وعلى أعمالهم حسيب، راقبوه في جميع أحوالهم، وأخذوا حذرهم أن يفتنهم الشيطان أو يستزلهم، فلا يستطيع إبليس وأعوانه أن يصيبوا منهم مقتلا، فيهلكون ساعة غفلة. إذ إنهم لما روقبوا راقبوا، فتوقوا في مشيهم إلى الله، ونظروا مواضع أقدامهم فلا يضعونها إلى فيما يرضي الله، منصوب أمامهم: وما الله بغافل عما تعملون. عباد الله: أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟
وقال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله - عز وجل -: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم. الآية. إن المرء لا يستطيع أن يختبيء عن نفسه في مكان ما، فلا بد أن ترافقه أعضاؤه، ولا بد من حضور نفسه وجوارحه، فإن كان لا بد من شهود الجوارح والأركان معه أينما كان، وفي كل زمان، فإن رقابة الديان أعظم من ذلك، فلا وجود لمكان لا يراك الله فيه، وكان الله على كل شيء رقيبا. وسع كل شيء علما، يخرج الخبء في السموات والأرض، ويعلم ما تخفون وما تعلنون. بهذه الرقابة ينتعش قلب المؤمن، فيفيض على الخليقة برا وإحسانا، وعلى نفسه فتغمره السعادة، أخلاقا وإيمانا. ولا تصلح الأرض فتعمر بالصالحات إلا إذا أقيمت على أهلها رقابة الرقيب، ومحاسبة الحسيب، تثمر تقوى تحجز المرء عن معصية الله، وترفع قيمته أن تضعها الخيانة، أو أن يتخلى عن التحلي بالأمانة. ومن هنا كثر التذكير في القرآن بأسماء الله وصفاته، التي توجب في قلب المؤمن بها حصول المراقبة عليه ممن أنزل في كتابه ما يشير إلى رقابته وعلمه، وسمعه وبصره، وخبرته وقوته، وبطشه وقدرته، وقهره وعظمته، وهو المحذر له، لا يزال مذكرا إياه بأن السر والعلن عنده سواء، ولا يستر عن عينه أرض أو سماء، وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ فلا تغفل عن مراقبته، ولا تقنط من رحمته، ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. أيها المراقبون: سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله!!! فألق السؤال على نفسك إذا أمرتك بسوء، أو دعتك إلى ضلال، وقالت لك أنت في مكان آمن، لا يراك فيه أحد، ولا يمكن أن يعلم بك أحد، فقل لها: فأين الله؟ ألا تعلمين أن الله على كل شيء شهيد، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم. قل لها سأجيبك إلى ما تشتهين إذا لم ترني عين، فإن قالت فإنه لا عين تراك هنا فقل لها فأين عين الله؟ وعظها بهذا وألجمها بخطام المراقبة لله تقلع عن كثير من الذنوب، إذا استحت من علام الغيوب. ويقال: من راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه. قال سفيان الثوري لأصحابه: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا. قال: فإن معكم من يرفع الحديث. يعني الملكين. وقال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك. وعنه قال: لو أن صاحب خبر جلس إليك لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تحترز!! قال الذهبي معلقا على هذا الكلام: هكذا كانت نكت العارفين وإشاراتهم. وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة؟ قال: إذا علم أن عليه رقيبا. وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك. أيها المسلمون: ما وعظ الله عباده أوقع في نفوسهم من تذكيرهم باطلاعه عليهم، وخبرته بهم، وحفظه لهم، ورقابته على أحوالهم، كما في قوله - جل وعلا -: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه. وتفكر في قوله - جل وعلا -: أرأيت إن كذب وتولى، ألم يعلم بأن الله يرى. فيا من حولك تلفت، ولأبوابك غلقت، وعن أعين الناس اختبأت، وعلى معصية الله أقبلت، أما سألت نفسك: أين الله؟ أتظنين أنه لا يراني؟ أتظنين أنه لا سمع كلامي؟ أتحسبين أنه غافل عني؟ إن كنتِ كذلك فاستمعي إلى ما قد قيل لمن ظنوا كظنك: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين. ألا فاتق الله أيها المسلم، وراقبه في سرك وعلانيتك، واستشعر قدرته عليك، ولا تجعله أهون الناظرين إليك. وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين. واحذر كل الحذر أن لا يراك مع الساجدين، وأن لا ينظر إليك بين الراكعين، وأن يفتقد يديك مرفوعة مع الداعين، فيا لخسارة الغافلين، ويا لندامة المعرضين. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى، ورسلنا لديهم يكتبون. فأين تذهبون؟ وأين تختبئون، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون، عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون. ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين. فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في جميع أحوالكم، فإن الله كان على كل شيء رقيبا، والله على كل شيء شهيد، والبر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكان الله بكل شيء عليما. ومن حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن أهملها في الدنيا كثرت عثراته، ودامت حسراته، وتبرأ منه يوم القيامة أهله وأحبابه. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على قوم جازفوا الأمور، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر. وقال - تعالى - في الحديث القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. أخرجه مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. فإذا دعتك نفسك أيها الحبيب إلى معصية فتذكر أن عين الله لا تغفل ولا تنام، وأنه معك يسمع ويرى، وأنك ستأتيه يوم القيامة فردا، فأعد للأمر عدته، واسأل الله - تعالى - أن يخفف عنك هول الموقف وشدته. وسق نفسك إلى الآخرة بسؤالها دوما أين الله؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد