تأخير التوبة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد أمر اللَّه - تعالى - جميع المؤمنين بالتوبة، فقال - تعالى -: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31].

كذلك أمر اللَّه - تعالى - بالمسارعة إلى التوبة فقال: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم}[النساء: 17]

وفي نفس المعنى يقول ربنا جل شأنه في أواخر سورة الأعراف: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201].

ولذلك فالمسلم مطالب بتعجيل التوبة لأنه لا يدري ما يعرض له، قد يداهمه هاذم اللذات فيموت وهو مقيم على المعصية، أو يحال بينه وبين التوبة، ويختم له بخاتمة السوء، أو يؤخر التوبة ولربما يقبل اللَّه توبته ولكن بعد أن يكون قد دفع الثمن غاليًا فيعيش بقية عمره تعيسًا.

على سبيل المثال: شخص أدمن المشروبات المحرمة حتى تلفت معدته واضطر لاستئصالها وتركيب معدة صناعية (من البلاستيك) بدلاً منها - عمرها الافتراضي عامان، ولذلك فهو يضطر لاستبدالها كل عامين، أي أنه يتم فتح بطنه كل عامين بتكاليف قد لا تكون متوفرة لديه، علاوة على الآلام المبرحة التي يشعر بها بعد كل وجبة، يا ليته تاب قبل أن تتلف معدته!

مثال آخر: شخص غير متدين تزوج امرأة غير متدينة، وشاء اللَّه أن يهديه هو ولم يهدها، فأمرها بالحجاب الشرعي فرفضت بشدة، وأراد أن يدخل أولاده المعاهد الأزهرية فأبت إلا مدارس اللغات، وأراد أن يوفر لحيته فأقامت الدنيا عليه ولم تقعدها، يا ليته تاب قبل أن يتزوج.

مثال آخر: شاب دأب على عادة الاستمناء القبيحة حتى تسبب ذلك (مع طول الوقت) في تدمير غدة البروستاتا لديه بحيث أصبح غير قادر على الزواج. وكان يبكي حزنًا على حاله، وندمًا على انزلاقه إلى ذلك المسلك الشائن، وعلى عدم مسارعته إلى التوبة قبل فوات الأوان، فكان ندمه حيث لا ينفع الندم. وعاقبه الله بحرمانه من الحلال مدى الحياة، واضطره إلى التوقف عن اقتراف المعصية (كرهًا) لما طالت غفلته ولم يسارع إلى الإقلاع عنها طواعية.

والتوبة هنا (إن قبلت) تنجي من عذاب الآخرة، ولكنها لن تعيد إليه الصحة.

هذه يا أخي المسلم طائفة من العقوبات التي ينزلها الله في الدنيا (أحيانًا) على من يؤخرون التوبة. أما من يموتون على غير توبة فإن لهم عند الله مصيرًا مجهولا، فاللهم سلم سلم.

هذه الأمثلة حقيقية وواقعية، وهناك أمثلة أخرى كثيرة أشد مرارة، نسأل اللَّه - تعالى - أن ييسر التوبة على الجميع.

والآن كيف السبيل؟

يقول ربنا- تبارك وتعالى -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}[الزمر: 53]

هكذا يفتح اللَّه أبواب رحمته أمام الغافلين - للعودة إلى رحاب رضوان اللَّه ليس هذا فحسب، بل إن اللَّه - تعالى -يعد التائبين بأن يبدل سيئاتهم حسنات إن هم صدقوا في توبتهم، يقول جل جلاله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}[الفرقان: 70]

فيا أخي المذنب: إن ربك يدعوك إلى التوبة، ويفرح بتوبتك وهو غني عنك، لا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك، يقول جل شأنه: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصلت: 46، الجاثية: 15].

ويقول أيضًا: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].

والرسول - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب العصاة في التوبة فيقول: «إن اللَّه - تعالى - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها». [رواه مسلم].

ويستفاد من هذا الحديث الصحيح أن باب التوبة مفتوح لجميع الأحياء حتى طلوع الشمس من مغربها.

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «إن اللَّه - عز وجل - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». رواه الترمذي وصححه الألباني.

ويستفاد من هذا الحديث أن باب التوبة مفتوح ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، أما إذا حضر الموت وبلغت الروح الحلقوم فلا تقبل توبة، يقول المولى- تبارك وتعالى -: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].

فهيا يا أخي المذنب سارع إلى التوبةº فأنت المنتفع الأول بها، ولا تنخدع بسراب اسمه طول الأمل: الأمل في أنك ما تزال شابًا وأنك ستتوب بعد حين: بعد أن تحج، أو بعد أن تتزوج، أو بعد أن تستمتع بشبابكº لأن الموت يأتي بغتة، والله - تعالى -يقول: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض} [آل عمران: 133]، وقد عدَّ العلماء تأخير التوبة من الذنوب - عدٌّوه ذنبًا جديدًا تجب التوبة منه.

ولا تغتر يا أخي العاصي بحلم اللَّهº لأن اللَّه يمهل ولا يهمل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ويتوب اللَّه على من تاب». متفق عليه.

وأحرى بك يا أخي إن كنت شابًا أن تنشئ نفسك في عبادة اللَّه حتى تكون من السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإن كنت شيخًا عجوزًا فقد أعذر اللَّه إليك وأمهلك، ومدَّ في عمرك ما يتذكر فيه من تذكر، وظهر نذير الموت في مفرق رأسك، وعليك أن تنتظر الموت بين لحظة وأخرى، وأن تسارع إلى كتابة وصيتك وأن تتعوذ بالله من سوء الخاتمة، وما أدراك ما سوء الخاتمة؟ إنها قد تكون الموت على معصية وفضيحة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يبعث كل عبد على ما مات عليه». [رواه مسلم]

فيكون الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

أو تكون الخاتمة سوء المنقلب في المال والأهل والولد.

أو تكون فقدان الصحة بمرض عضال يطول أمده (فقدان البصر- أو الشلل - أو فقدان الذاكرة- أو احتباس البول - أو غير ذلك من سيء الأسقام التي تعوَّذ منها الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فيذهب المال كله على العلاج ثم بعد ذلك يكون الموت.

إن ثمن الغفلة يا أخي قد يكون فادحًا، والله - تعالى - يقول: {وقدموا لأنفسكم} [البقرة: 223].

والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تعرف إلى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة». [صحيح الجامع للألباني]

فيا أخي المسلم: حذار أن تضع نفسك في موضع من يندم حين لا ينفع الندم، واحمد اللَّه أن أمهلك وأحياك صحيحًا معافًى، واليوم لا يزال باب التوبة مفتوحًا، وقد يغلق غدًا (بغتة) أو بقيام الساعة، أو أن يختم اللَّه على قلبك والعياذ بالله فيحال بينك وبين التوبة وتموت مفتونًا.

واجعل من تمام توبتك أن تنخلع من بعض مالك صدقة وقربى إلى اللَّه كما فعل كعب بن مالك - رضي الله عنه - عندما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تاب اللَّه عليه: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللَّه ورسوله». فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك». رواه البخاري ومسلم.

والله - تعالى - يقول: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114].

والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». [رواه الترمذي وصححه الألباني - رحمهما الله - تعالى]

اللهم إنا نشكرك على نعمة الإمهال، ونسألك توبة عاجلة نصوحًا من كل ذنب نعلمه، ونعوذ بك مما لا نعلم. ونسألك يا رب حسن الخاتمة ونعوذ بك من سوء الخاتمة، ونعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر.

اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام وسيء الأسقام.

اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، ونعوذ بك من عذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.

اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply