بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، يقول الله - تعالى -في محكم كتابه العزيز: وَذَكّر فَإِنَّ الذّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ [الذاريات: 55]، وقال - سبحانه -: فَذَكّر إِن نَّفَعَتِ الذّكرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخشَى [الأعلى: 9، 10]. فهذه خطبة تذكيرية، مادتها معروفة، لكننا ننشغل فننسى، فنحتاج إلى محطات نقف فيها مع أنفسنا، فأذكر نفسي المقصرة أولاً ثم أذكرك أخي المسلم.
أذكرك بصرعة الموت لنفسك، ونزعه لروحك، وكربه وسكراته، وغصصه وغمه، أذكرك يا أخي إذا جاءك ملك الموت، لجذب الروح من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجل محزون، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب..فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك.
وأذكرك ـ يا أخي ـ بنزولك القبر، وهول مطلعه، ومجيء الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟.. تصور أصواتها عند ندائهما لك، لتجلس لسؤالهما لك، وتصور جلستك في ضيق قبرك، وقد سقط الكفن عن حقويك، والقطن من عينيك وأذنيك، ثم تخيّل شخوصك ببصرك إليهما، وتأملك لصورتيهما، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة، أيقنت بالخسارة والهلاك..
تفكـر في مشيبـك والمـآب *** ودفنك بعد عزك فـي التـراب
إذا وافيـت قبـراً أنت فيــه *** تقيم به إلـى يـوم الحسـاب
وفي أوصال جسمك حين تبقى *** مقطعــة ممـزقة الإهــاب
خلقـت من التراب فعدت حياً *** وعُلمت الفصيـح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيـه *** كأنك ما خرجت من التـراب
أخي المسلم، كيف يكون شعورك، إذا ثبتك الله - جل وعلا - ونظرت إلى ما أعدّ الله لك، تصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم، وبهجة الملك، وإن كانت الأخرى، نسأل الله السلامة والعافية، فتصور ضد ذلك من انتهارك، ومعاينتك جهنم، وقولها لك: هذا منزلك ومصيرك، فيا لها من حسرة، ويا لها من ندامة، ويا لها من عثرة لا تُقال. ثم بعد ذلك الفناء والبِلى، حتى تنقطع الأوصال، وتتفتت العظام، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، وقد بقى الجبار منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه، ثم لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله - جل وعلا -: وَاستَمِع يَومَ يُنَادِ المُنَادِ مِن مَّكَانٍ, قَرِيبٍ, يَومَ يَسمَعُونَ الصَّيحَةَ بِالحَقّ ذَلِكَ يَومُ الخُرُوجِ [ق: 41، 42].
عندها يأمر الله ملكاً أن ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.. تصور وقوع الصوت في سمعك ودعاءك للعرض على مالك الملك، فيطير فؤادك، ويشيب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحـدة للعرض على الرب - جل وعلا -: فَإِنَّمَا هِيَ زَجرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14].
فبينما أنت في فزع من الصوت، إذ سمعت بانشقاق الأرض، فخرجت مغبراً من غبار قبرك قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء يَومَ تَشَقَّقُ الأَرضُ عَنهُم سِرَاعاً [ق: 44]، وقال - تعالى -: خُشَّعاً أَبصَـارُهُم يَخرُجُونَ مِنَ الأَجدَاثِ كَأَنَّهُم جَرَادٌ مٌّنتَشِرٌ G مٌّهطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر: 7، 8]. فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك، في زحمة الخلائق، خاشعة أبصارهم، وأصواتهم ترهقهم ذلة وَخَشَعَتِ الأصوات لِلرَّحمَـانِ فَلاَ تَسمَعُ إِلاَّ هَمساً [طه: 108].
ثم تصور إقبال الوحوش من البراري، منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة، فبعد توحشها من الخلائق، ذلت ليوم النشور وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَت [التكوير: 5]، وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق، مع كثافة سمكها، والملائكة على حافـات ما يتفطـر من السماء، كما قال - تعالى -: وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَومَئِذٍ, وَاهِيَةٌ وَالمَلَكُ عَلَى أَرجَائِهَا [الحاقة: 16، 17]، وقال جل جلاله: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَت وَردَةً كَالدّهَانِ [الرحمن: 37]، فتصور وقوفك منفرداً عرياناً حافياً، وقد أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال، اشتد الكرب، واشتد الوهج من حر الشمس، ثم ازدحمت الأمم، وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام، ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم إلى الأرض حتى استنقع ثم ارتفع إلى الأبدان، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم، بالسعادة والشقاوة.. ثم جيء بجهنم تقاد، ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وَجِيء يَومَئِذٍ, بِجَهَنَّمَ يَومَئِذٍ, يَتَذَكَّرُ الإِنسَـانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكرَى [الفجر: 23]، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبته، يقول: يا رب نفسي نفسي، فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع، الذي قد ملأ القلوب رعباً وخوفاً، وقلقاً وذعراً، يا له من موقف ومنظر مزعج.. وأنت أخي المسلم بالتأكيد تكون أحدهم، فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق والفزع والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، تصور هذه الخلائق وهم ينادون، كل واحد بنفسه يَومَ تَأتِى كُلٌّ نَفسٍ, تُجَـادِلُ عَن نَّفسِهَا [النحل: 111]، وقال - سبحانه -: يَومَ يَفِرٌّ المَرء مِن أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امرِئ مّنهُم يَومَئِذٍ, شَأنٌ يُغنِيهِ [عبس: 34-37].
تصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب، لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل، ولولا هول ذلك اليوم، ما كان من الكرم والمروءة، أن تفر من أمك وأبيك، وأخيك وبنيك، لكن عظم الخطر وشدة الكرب، اضطرك إلى ذلك إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَىء عَظِيمٌ يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلٌّ مُرضِعَةٍ, عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلٌّ ذَاتِ حَملٍ, حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1، 2].
فبينما أنت في تلك الحالة، مملوء رعباً، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال، إذ ارتفع عنق من النار، يلتقط من أمر بأخذه، فينطوي عليهم، ويلقيهم في النار، فتبتلعهم.
ثم تصور الميزان وعظمته، وقد نصبت لوزن الأعمال، وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل، وقلبك مملوءً خوفاً، لا تدري أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك فَأَمَّا مَن أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهلِهِ مَسرُوراً وَأَمَّا مَن أُوتِىَ كِتَـابَهُ وَرَاء ظَهرِهِ فَسَوفَ يَدعُو ثُبُوراً وَيَصلَى سَعِيراً [الانشقاق: 7-12]، فَأَمَّا مَن أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقرَؤُا كِتَـابيَه إِنّي ظَنَنتُ أَنّى مُلَـاقٍ, حِسَابِيَه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ, رَّاضِيَةٍ, [الحاقة: 19-21]. وَأَمَّا مَن أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيتَنِي لَم أُوتَ كِتَـابِيَه وَلَم أَدرِ مَا حِسَابِيَه يا لَيتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ مَا أَغنَى عَنّى مَالِيَه هَلَكَ عَنّى سُلطَـانِيَه خُذُوهُ فَغُلٌّوهُ ثُمَّ الجَحِيمَ صَلٌّوهُ ثُمَّ فِي سِلسِلَةٍ, ذَرعُهَا سَبعُونَ ذِرَاعاً فَاسلُكُوهُ [الحاقة: 25-32].
ماذا فعل؟ وما كان جرمه؟ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَلاَ يَحُضٌّ عَلَى طَعَامِ المِسكِينِ فَلَيسَ لَهُ اليَومَ هَـاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِن غِسلِينٍ, لاَّ يَأكُلُهُ إِلاَّ الخَـاطِئُونَ [الحاقة: 33-37]، فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال.
والله ـ أيها الأحبة ـ مجرد تصور هذه الأمور يبكي المؤمن منها حقاً.. عن الحسن - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رأسه في حجر عائشة رضي الله - تعالى -عنها، فنعس، فتذكرت الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ((ما يبكيك))، فقالت: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة، قال: ((والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه، إذا وضعت الموازين، ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط)).
تصور أخي المسلم، بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله - جل وعلا - وتقدس، إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله - عز وجل -.
فقمت أنت لا يقوم غيرك، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب رجلاك، وقلبك مرتفع إلى الحنجرة وَأَنذِرهُم يَومَ الازِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَ [غافر: 18]، فيا له من يوم قال الله جل جلاله عنه: فَكَيفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرتُم يَوماً يَجعَلُ الوِلدانَ شِيباً [المزمل: 17]. تصور نفسك وبيدك صحيفة، مُحّص فيها الدقيق والجليل، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر، وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله، فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك، وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غداً بين يديه، وبأي طرف تنظر إليه، وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم وتوبيخه. فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك، وكم من بلية أحدثتها فذكرتها، وكم من سريرة قد كنت كتمتها، قد ظهرت وبدت، فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك أَن تَقُولَ نَفسٌ ياحَسرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ [الزمر: 56]، وقال - تعالى -: وَأَنذِرهُم يَومَ الحَسرَةِ إِذ قُضِىَ الأمرُ وَهُم فِي غَفلَةٍ, وَهُم لاَ يُؤمِنُونَ [مريم: 39].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -..
أقول هذه القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: عباد الله، ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليقفنّ أحدكم بين يدي الله- تبارك وتعالى -ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم، ألم آتك مالاً، فيقول: بلى، فيقول: ألم أرسل إليك رسولاً، فيقول: بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) رواه البخاري.
فأعظم به من موقف وأعظم به من سائل.
أيها المسلمون، ثم هناك الصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحد من السيف، فكيف بك يا أخي لو نظرت إليه بدقّته وجهنم تضطرب وتتغيظ بأمواجها من تحته، فياله من منظر ما أفظعه، ويا له من مشهد ما أهوله، ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر، اركب يا فلان بن فلان، فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك، ولما قيل لك اركب طار عقلك رعباً وخوفاً، ثم إذا رفعت رجلك، وأنت تنتفض لتركب الصراط فوقع قدمك على حدته ودقته، فازداد فزعك، وازداد رجفان قلبك، ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون في النار من بين يديك ومن خلفك، فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك، وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك، ممن يسقطون وقد تنكّست هاماتهم وارتفعت أرجلهم، وآخرون يُتخطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء بأذنيك، والأصوات المزعجات بين ناظريك، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقىً ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكان ما أهوله، وموقف ما أعظمه، تفكر في حالك يا أخي بعقلك ما دمت على قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه، لعلك أن تتلافى تفريطك، وكلنا مفرط، وتحاسب نفسك، وكلنا مقصر، فيفوت الأوان، وتبوأ بالخيبة والحرمان.
فكيف بك إذا بؤت بالخسران، وزلّت رجلك عن الصراط، ووقعت فيما كنت تخاف منه، فلم تشعر إلا والكلاليب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبت به، وسمعت لنداء النار بقوله - عز وجل -: هَلِ امتَلاَتِ [ق: 30]، وسمعت إجابتها له هَل مِن مَّزِيدٍ, [ق: 30]، وهي تلتهب في بدنك، لها قصيف في جسدك، ثم لم تلبث أن تمزق جسمك وتساقط لحمك، وبقيت عظامك، ثم كيف بك إذا سقيت من شراب أهل النار والعياذ بالله، كلما قربته إلى فمك لتشرب فيه، شوى وجهك، وتساقط لحمه، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك، فقطع أمعاءك، كما قال - سبحانه -: وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعَاءهُم [محمد: 15]، وقال - تعالى -: وَيُسقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ, يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأتِيهِ المَوتُ مِن كُلّ مَكَانٍ, وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ, وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 16، 17].
تصور هذه حالتك، وتزداد عذاباً، لو تذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، فهاجت غصة في فؤادك، على ما فاتك من رضا الله - عز وجل -، وحزناً على نعيم الجنة، فكيف بك لو تذكرت بعض أقاربك وأصدقائك وقد منّ الله عليهم بدخول الجنة، فزادك ذلك حسرةً وأسفاً، قال الله - تعالى -: وَنَادَى أَصحَـابُ النَّارِ أَصحَـابَ الجَنَّةِ أَن أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاء أَو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَـافِرِينَ [الأعراف: 50]، فيا خيبة من هذا حاله، وهذا مآله، تصور نفسك كلما أردت أن تنطق بكلمة جاءك الجواب: اخسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون: 108]، وأشد منها حسرة حين تسمع وقع أبوابها قد أطبقت على أهلها إِنَّهَا عَلَيهِم مٌّؤصَدَةٌ فِى عَمَدٍ, مٌّمَدَّدَةِ [الهمزة: 8، 9].
عند ذلك يعلم أهل النار أن لا فرج ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله، خلود فلا موت، وأحزان لا تنقضي، وهموم لا تنتهي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تُحل، وأغلال لا تُفك، كما قال - تعالى -: إِذِ الأَغلَـالُ فِى أَعنَـاقِهِم والسَّلَـاسِلُ يُسحَبُونَ فِى الحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسجَرُونَ [غافر: 71، 72]، وقال - تعالى -: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَت لَهُم ثِيَابٌ مّن نَّارِ يُصَبٌّ مِن فَوقِ رُءوسِهِمُ الحَمِيمُ يُصهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِم وَالجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِن حَدِيدٍ, كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخرُجُوا مِنهَا مِن غَمّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ [الحق: 19-22]، لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، وهم ينادون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل، كما قال - سبحانه -: وَهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمَل صَـالِحاً غَيرَ الَّذِي كُـنَّا نَعمَلُ [فاطر: 37]، وقال - تعالى -: وَإَذَا أُلقُوا مِنهَا مَكَاناً ضَيّقاً مٌّقَرَّنِينَ دَعَوا هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدعُوا اليَومَ ثُبُوراً واحِداً وَادعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان: 13، 14]، فنظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك، تدخل أذنيك وعينيك، ولا تقدر على إبعادها عنك إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءت مُستَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان: 65، 66].
فاتقوا الله أيها المسلمون، ضعوا في بالكم هذه الأهوال والعظائم بعقل واعٍ, وعزيمة صادقة، فإنها حقائق لا خيال، وراجعوا أنفسكم ما دمتم على قيد الحياة وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وابكوا من خشية الله لعله يرحمكم، ويقيل عثرتكم، فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف، والنار محرقة، والموت قريب.
مثل لنفسك يوم الحشر عريـانـا *** مستعطفاً قلق الأحشـاء حيرانا
النار تزفر من غيـظٍ, ومـن حنقٍ, *** على العصاة وتلق الرب غضبانا
اقرأ كتابك يـا عبدي على مهلٍ, *** وانظر إليه ترى هل كان ما كانا
لمّا قرأتُ كتابـاً لا يغـادر لـي *** حرفاً وما كان في سـرٍ, وإعلانا
قال الجليـل خـذوه يا ملائكتي *** مرّوا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب *** ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانـا
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد