بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا تزال عجائب القرآن تتجدد لقارئه، المتأملِ في آياته، الطالبِ لهدايته، فهو يرى فيه مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، وتنوع الأحداث البلسم الشافي، والدواء الناجع، والمخرجَ من هذه الظلمات التي تتخبط فيها الأمة!.
إنني حين أذكر ذلك، فإني لا أضيف جديداً، ولكنني أعبر عما يختلج في النفس من مشاعر موقنة بهذا أشد اليقين، وهي ترى أمتها مبتعدة في كثيرٍ, من جوانب حياتها عن هذا النور، والهدى، والرحمة، والشفاء.
دعنا أخي القارئ نأخذ مثالاً من الأمثلة الكثيرة جداً التي عالج القرآن فيها مواطن خلل حدثت في موقفٍ, من المواقف التي انتهى أشخاصها، لكن بقيت دروسها وعبرها شاهدةً لكل المؤمنين الذين يتلون هذا الكتاب العظيم إلى يوم القيامة.
لمّا حصل ما حصل في غزوة أحد من هزيمة، ومخالفة الرماة - رضي الله عنهم - لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ترتب على ذلك من محاولة قتله - صلى الله عليه وسلم - وتَرك بعض الصحابة للقتال بسبب تلك الإشاعة التي صاح بها الشيطان أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد قُتِل، جاءت آياتٌ عظيمة عاتب الله تعالى الذين وقع منهم هذا، بآيات منها قوله تعالى: \"وَكَأَيِّن مِن نَبِيٍّ, قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيٌّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَولَهُم إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَثَبِّت أَقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ\" (آل عمران: 146، 147).
وموطن الاعتبار الذي أود الحديث عنه هو ما حكاه الله تعالى عن هذا النبي ومن معه من الربيين، الذين كانوا يجاهدون في سبيل الله الذين جعلهم الله تعالى مثلاً للصحابة - رضي الله عنهم - الذين قالوا: \"رَبَّنَا اغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا وَثَبِّت أَقدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ\"!.
فهم بعد أن تحدثت الآية عن عملهم الظاهر من الثبات أمام العدو، رغم كثرة القتل الذي أصابهم، بل ورغم قتل نبيهم كما هو أحد القولين في حياة هؤلاء الأبرار، وهو جانب الإزراء على النفس، وإظهار الخوف من ذنوبهم، مع جلالة عملهم، وفضل مقصدهم: \" وَمَا كَانَ قَولَهُم إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا\".
ولئن كان سياق كلامهم يوحي بالخوف من ذنوبهم الخاصة، فإن سياق الآيات كلها في غزوة أحد يوحي أيضاً بالتحذير والخوف من الذنوب العامة في الأمة، وخطرها على مسيرتها، بل وأثرها على بقية أفرادها من الصالحين والأخيار.
ألم يَكتَوِ بنار هذا الخطأ في غزوة أحد أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم -؟ فشجت جبينه، وكسرت رباعيته بأبي هو وأمي ونفسي؟! فضلاً عن باقي الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين راح بعضهم ضحية هذا الخطأ؟!
لقد فقه أسلافنا هذا المعنى جيداً أعني أثر الذنوب الخاصة والعامة على الأمة وما حديث عمر رضي الله عنه لسعدٍ, حينما أرسله للقادسية محذراً له من مغبة الذنوب ببعيد عن علم القارئ الكريم.
فهل يتنبه كل من يخدم الإسلام ويعمل له وإن كان في أشرف الميادين حاجتهم إلى الإزراء على نفوسهم، والخوف من آثار الذنوب، ودورها في تقليل بركة العمل، ولها أثرها في تسليط العدو؟!.
وإني لأعجب من هذا التعبير الذي يوحي بما كان عليه ذلك النبي - عليه الصلاة والسلام -، ومن معه من الربيين من تعظيمٍ, لله، وافتقارٍ,، وابتهالٍ,، وخوفٍ, ووجلٍ,!
فتأمل في قولهم: \" ذُنُوبَنَا\" فهو عموم، ثم خصوا فقالوا: \" وَإِسرَافَنَا فِي أَمرِنَا\"، ثم سألوا ربهم الثبات، خشية أن تكون ذنوبهم سبباً في فقده.
وما أصعب الأمر حينما يفقد الإنسان الثبات أمام عدوه، وهو يعتقد أنه يقاتل من أجل حق، فتخذله ذنوبه أحوج ما يكون إلى الثبات والنصر؟!
وإذا قرنت هذا الموطن في سورة آل عمران مع آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر وهي قوله تعالى: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ\" (الأنفال: 45، 46).
إذا قرنتهما، تبين لك دقة الاتفاق والارتباط بين الآيات، وأن التوجيه الرباني للمؤمنين في التحذير من الذنوب العامة والخاصة بدأ منذ بدايات الجهاد في سبيل الله تعالى، وأنه تنوّع وأخذ أساليب شتى:
فهو في غزوة بدر جاء بصيغة الخطاب المباشر، وفي غزوة أحد جاء بصيغة العتاب، وضرب المثل بالسابقين، والمقام ليس مقام مقارنة بين الموضعين مع أهميته فهو يحتاج إلى مقالة مستقلة.
ولما فرغ إبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - من بناء البيت الحرام، رفعا ذلك الدعاء الذي يفيض ابتهالاً وتضرعاً، فقالا: \"رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ رَبَّنَا وَاجعَلنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُب عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ\" (البقرة: 127، 128)، وشاهد الآية في آخرها، ولابن جرير - رحمه الله - تعليق لطيف عليها يحسن الرجوع إليه.
وفي قصة السبعين رجلاً الذين اختارهم موسى - عليه الصلاة والسلام - لما أخذتهم الرجفة قال موسى مقولة العالم بربه، الخائف من تقصيره: \"رَبِّ لَو شِئتَ أَهلَكتَهُم مِن قَبلُ وَإِيَّايَ أَتُهلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السٌّفَهَاءُ مِنَّا إِن هِيَ إِلَّا فِتنَتُكَ تُضِلٌّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيٌّنَا فَاغفِر لَنَا وَارحَمنَا وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرِينَ وَاكتُب لَنَا فِي هَذِهِ الدٌّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدنَا إِلَيكَ\" (الأعراف: 155، 156).
فهذه توجعات سادات الأولياء والصالحين، وتألهات المخبتين في جميع الأمم، وهذه هجير العارفين بعظيم ما لله تعالى عليهم من عظيم الحق، وجزيل المنن.
وقضية استغفار العاملين، ليست خاصة بميدان الجهاد في سبيل الله مع ما يلاقيه المجاهد في سبيل الله من الشدائد المكفرة للذنوب بل هي قضية تتكرر في مواطن أخرى من مواطن العمل الصالح، يُلحَظُ هذا جلياً في بعض أركان الإسلام ودعائمه العظام:
ففي الصلاة التي هي أعظم الأعمال شُرع للمسلم أن يستغفر ثلاثاً كما صحت به السنة الصحيحة الصريحة، وأشار القرآن إليه بقوله: \"فَإِذَا قَضَيتُمُ الصَّلاةَ فَاذكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم فَإِذَا اطمَأنَنتُم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَت عَلَى المُؤمِنِينَ كِتَاباً مَوقُوتاً\" (النساء: 103)
وبعد نفير الحجاج من عرفة ومزدلفة إلى منى، أمروا بالاستغفار: \"ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ\" (البقرة: 199).
وها نحن نودع شهر رمضان، بعد ما يسر الله تعالى فيه بعض الأعمال الصالحة، فهل نستشعر عظيم منة الله علينا بما وفقنا إليه من صالح العمل؟! وهل نحن خائفون وجلون من تقصيرنا في حقه - سبحانه -؟!
إن هذا الشعور ينبغي أن يكون شأن المتعامل مع ربه بعبادة خاصة، أو متعدية النفع في كل زمان ومكان يرى المنة لربه بتوفيقه للعمل الصالح، ويشعر لما لله عليه من الحق العظيم أنه بحاجة إلى الاستغفار من تقصيره في حق ربه ومولاه، وتبرئه من حوله وقوته، وخوفه من حظوظ النفس، وغير ذلك من العوارض المؤثرة في قبول العمل، أو نقص بركته.
هذه إشارات سريعة إلى هذه اللفتة القرآنية الجليلة، وهي تحتاج تفصيلاً أكثر من ذلك، \"رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ\"، \"وَتُب عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ\" ووفقنا لتدبر كتابك، والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد