بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أسبغ الله علينا نعمه، وأتم علينا فضله، فنعمه وأفضاله لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم تلك النعم نعمة البصر يقول الله جل جلاله: ((قُل هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشكُرُونَ)) (الملك: 23).
ومن عظيم قدر هذه النعمة أن الله - تعالى -أبدل من سلب منه عينيه فصبر الجنة، قال- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه ثم صبر، عوضته الجنة)) رواه البخاري.
إن نعمة البصر من أعظم النعم إذا استخدمها العبد في طاعة الله - عز وجل -، فينظر بها إلى عظمة الله - عز وجل -، ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض، ويستعين بهما على الطاعة، وتدبير أمر معاشه.
أما إذا كانت خلاف ذلك، فإنها تكون سبباً للحسرة في الدنيا والندامة في الآخرة، ولذا جاء الأمر الإلهي للمؤمنين كآفة بغض البصر وحفظه، قال - تعالى -: ((قُل لِّلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصنَعُونَ)) (النور: 30).
قال ابن كثير - رحمه الله - : (هذا أمر من الله - تعالى -لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرمٍ, من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعاً).
ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمر الشرع بغض البصر عما يخاف عواقبه.
قال ابن القيم - رحمه الله - : معلقاً على حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم -: ((كتب على ابن آدم حظه من الزنا..)) رواه مسلم.
قال: (فبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل، والقلب والفرج.
فاحذر يا أخي من شر النظر، فكم أهلك من عابد، وأفسد من شاب وكهل، وتلمح معنى قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((النظر سهم مسموم)) رواه أحمد.
لأن السم يسري إلى القلب، فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، يروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجداً للأذان والصلاة، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقى يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتُتِن بها، فترك الأذان ونزل إليها، ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك؟ وما تريد؟ قال: أريدك، قالت: لماذا؟ قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك، قال: أتنصر، قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، فلم يظفر بها، وفاته دينه، إنها نظرة يظنها البعض يسيرة ولكنها ساقته إلى أن يترك ملة محمد- صلى الله عليه وسلم -.
كل الحوادث مبدأها من النظـر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتـر
والمرء ما دام ذا عين يقلبـــها في *** أعين الغيد موقوف على خطر
يسر مقلته ما ضر مهجــــته *** لا مرحباً بسرور عاد بالضـرر
إن فتنة النظر إلى ما حرم الله أصل كل فتنة، ومنجم كل شهوة، فالنظر هو رائد الشهوة ورسولها، وحفظه أصل حفظ الفرج، قال- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه)) متفق عليه.
وعنه- صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي بن أبي طالب: ((يا علي، إن لك كنزاً في الجنة، فلا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) رواه أحمد.
وهذا خطاب لعلي0 رضي الله عنه0 مع علمه- صلى الله عليه وسلم - بكمال زهده وورعه، وعفة باطنه، وصيانة ظاهرة، يحذره من النظر، ويؤمنه من الخطر، لئلا يدعي الأمن كل بطال، ويغتر بالعصمة والأمن من الفتنة: ((أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللّهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ)) (الأعراف: 99).
إن من الناس من يغض طرفه إن كان ثم ناظر إليه، وهو في حقيقة الأمر يتحسر على فوات هذه الفرصة، وفي ذلك يقول ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله - تعالى -: ((يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصٌّدُورُ)) (غافر: 19).
هو الرجل ينظر إلى المرأة الحسناء تمر به، أو يدخل بيتاً هي فيه، فإذا فُطن له غض بصره، وقد علم الله أنه يود لو اطلع على فرجها، ولو قدر عليها لو زنى بها، [1] نسأل الله العفو والعافية.
لقد شاع بين الناس كثرة النظر إلى المحرمات في الشاشات، وعلى صفحات المجلات، وهي دواعي الفتنة والشهوة، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لنظر ما هنالك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب رسوله ورائده، وفي ذلك يقول القائل:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المنظـار
رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ولكن إذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق نظراته دامت حسراته، ووقع في الأسر فصار أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجوناً بعد أن كان مطلقا، يتظلم من الطرف ويشكوه، والطرف يقول: أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني.
كسبت لقلبي نظرةً لتـسـره *** عيني فكانت شقوة ووبــالا
ما مر بي شيء أشد من الهوى *** سبحان من خلق الهوى وتعالى
فليحذر كل مسلم ذلك، وليعلم أنه محاسب على الخطرة والهفوة، وعلى التبسم والنظرة.
أعلم أن الذنوب قد تكون حجاباً عن الخاتمة الحسنة، ولهذا كان من شدة ورع السلف وحرصهم على حفظ أبصارهم
ما قاله ابن سيرين - رحمه الله - : إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها.
وقال سفيان: وكأنه يحدثنا ويرى واقعنا: عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة.
وصيانة للقلوب، وحفظاً لطهارة النفوس، فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ جميع الوسائل التي تفضي إلى تحريك الشهوة، والوقوع في الحرام، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنعت ـ أي لا تصف ـ المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها)) رواه البخاري.
فانظر يا رعاك الله كيف نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن وصف المرأة لزوجها صفة امرأة أجنبية، لئلا تسمو همته إليها، لأن الوصف يقوم مقام النظر.
يقول- صلى الله عليه وسلم -: ((اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) رواه أحمد.
ألا إنها دعوة لأن نمتع أبصارنا بتلاوة كتاب ربنا آناء الليل وأطراف النهار.
ألا إنها دعوة لأن نطلق أبصارنا لترى عظمة صنع الخالق جل جلاله، ليكون ذلك في ميزان الحسنات.
ألا إنها دعوة لأن نغض أبصارنا عما حرم الله، لنذوق حلاوة الإيمان والتي هي أطيب وأحلى مما تركته لله، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
----------------------------------------
[1] الفتح 11/11
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد