بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين وبعد:
الدعاء طاقة عظيمة من طاقات الإسلام الكثيرة والمعطلة، والتي ملكها الله للمسلمين، ووعدهم بالاستجابة: ((وقال ربكم ادعوني أستجب لكم))، وقال: ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان))، والدعاء من العبادات المهمة في حياة المسلم، تربطه بخالقه، وتحقق له مآربه، وترضيه بما لا لم يتحقق، وهي تشكل سلاحاً فريداً من الأسلحة التي ملكها الله إياها.
وعلى الرغم من كل ما ذكر، وما لم يذكر في فضائل الدعاءº فإن القسم الأكبر من المسلمين لا يلجؤون له إلا عند الحاجة، فهم عند المصائب داعين، وفي المسرات معرضين، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له على مدار اليوم والليلة أدعية لا يتركها، ومناجاة لا يبتعد عنها، وكفانا بذلك ما ذكره الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في كتابه الأذكار، وابن السني في عمل اليوم والليلة، وهذا الإعراض من المسلمين عن هذه العبادة المهمة إنما هو في أساسه عدم فهم هذه العبادة فهماً صحيحاً وسليماً، ونحن نحاول من خلال النقاط التالية بعون الله سبحانه أن نفهم الدعاء بشكل واسع، وطيف كبيرº يقرب المؤمن من هذه العبادة المهمة والمهملة.
فكيف يجب أن نفهم الدعاء:
1- يجب أن نفهم أنه من فضل الله - عز وجل - علينا أنه جعل الدعاء مستجاباً:
وهذا من فضل الله ومنته على هذه الأمة أن جعل الدعاء مستجاباً فقد روى الترمذي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر!! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( الله أكثر) قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح غريب، وهذه المنة العظيمة، والفضل الكبير من الله فرصة كبيرة للمسلم، فهو يستطيع أن يطلب ما يريد، وهو موقن بأن الإجابة محققة ولو بعد حين، أو أن هذا الدعاء له في إجابته ادخار عند الله، أو رفع للبلاء، فهي تجارة رابحة على كل حال، وهذا نوع من التجارة رأس مالها هو رفع اليدين فقط بصدق إلى السماء، والطلب من الله ما شاء.
2- يجب أن نفهم أيضاً أن الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة:
فقد روى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدعاء مخ العبادة)[1]، وهو نوع من التمثيل المهم يقرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلاله هذه العبادة المهمة، فالعبادات المختلفة تشكل جسداً يشبه جسد الإنسان، وكل عضو هو عبادة، والدعاء هو مخ هذا الجسد، أي مخ العبادات كلها، ذلك أن الدعاء يشكل الاستسلام المطلق لله - سبحانه وتعالى - فأنت عندما ترفع يديك ترفعهما محتاجاً مضطراً راغباً لما في يد الله، سائلاً ما عنده، ومستعيذاً من غضبه، وكل ذلك يدل على الاستسلام المطلق لله، وهو بهذه الصورة يحقق المعنى العام للإسلام الذي هو الاستسلام، وبذلك يحقق أنه مخ العبادات كلها.
3- يجب أن نفهم أيضاً أن الدعاء هو وسيلة تربوية مهمة جداً:
على الرغم من أن الدعاء هو تضرع لله - سبحانه وتعالى - في أكبر جوانبه لكنه يحمل في طياته إحدى أهم وسائل التربية المهمة، وهي تحديد الهدف الذي يريده المسلم من دعائه، وهو يحدد للمسلم ماذا يريد؟ وبالتالي يحل أكبر المشاكل التربوية، وخاصة الحديثة، والتي تتمثل في عدم وضوح الهدف، فهو يتضح هدفه من خلال الدعاء، فيسعى إليه سعياً أكيداً وحثيثاً حيث إن أول النجاح في الدنيا هدف واضح، ثم سير أكيد إليه، بلا كلل ولا ملل، فمثلاً عندما يرفع المسلم يديه إلى السماء ويدعو بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل) البخاري. عند ذلك يعلم المسلم أن الجبن والبخل صفتان سلبيتان مقيتتان، لا بد أن يتركهما، ويبتعد عنهما، ويأخذ كل الأسباب التي تبعده عن هاتين الصفتين الذميمتين، وعندما يرفع المسلم يديه إلى السماء، ويدعو بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يتعوذ من أربع: \"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها\"[2]، عند ذلك يعلم المسلم أن هذه الصفات مقيتة وخطيرة على الفرد والمجتمع، ويعلم حينها أن هناك علم ينفع، وعلم لا ينفع، فيقترب من العلم النافع، ويبتعد عن العلم غير النافع، ويعلم أن القلب إذا لم يخشع كان وبالاً على صاحبه، فيبتعد عن كل ما يسبب قسوة القلب، ويسبب عدم خشوعه، ويقترب من كل ما هو سبب لخشوع القلب كالذكر، وكفالة الأيتام، والاستغفار بالأسحار، ويعلم أن للدعاء أسباباً في استجابته، فيبتعد عن أكل الحرام، ويبتعد عن كل ما يسبب عدم سماع الدعاء، ويعلم أن النفس راغبة إذا رغبتها، وهي لا تشبع إذا ترك لها العنان فيعمل على جمحها، وتهذيبها، والاقتراب من كل ما يجعلها زكية هنية رضية، وعندما يدعو المسلم بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -) الترمذي قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب، ولا بد أن يعلم المسلم حينها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعوذ من أمور، وسأل أموراً، فيسأل عنهما ويتحراهما وهكذا... فكل دعاء هو تضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - من جهة، ومن جهة أخرى هو تحديد للهدف الذي يريده الإنسان، وهو يشكل بذلك أهم وسائل التربية المهمة في حياة الإنسان.
4- يجب أن نفهم أيضاً أن الدعاء سلاح قوي بيد المظلومين:
لم يكن الله - سبحانه وتعالى - ليترك المظلومين والمقهورين، والمجردين من القوة المادية، والمستضعفين من الرجال والنساء، لم يكن الله ليتركهم دون أن يعطيهم أسلحة يواجهون بها هذا الظلم، وهذا القهر الذي يعانون، فملكهم الله أسلحة فريدة موصولة معه - سبحانه وتعالى - مباشرة ومن هذه الأسلحة: الدعاء، ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) البخاري، فالدعاء سلاح فريد وقوي يملكه المظلوم، فما إن يرفع المظلوم يديه إلى السماء إلا ويأيتيه الرد من الله - سبحانه وتعالى - مباشرة: ((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين))، فأي سلاح هذا، وأي قوة أعطاها الله - سبحانه - للمظلومين والمقهورين والمستضعفين، والله لو يعلم الظالم هذا السلاح بيد المظلوم لما ظلمه قط، ولما تجرأ على ذلك، ومن أمثلة استجابة دعوة المظلوم ما رواه البخاري عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر - رضي الله عنه - فعزله واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق (أي سعد): أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرم عنها أصلي، صلاة العشاء فأركد في الأوليين، وأخف في الأخريين، فقال عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً حتى دخل مسجداً لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية!! قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن!! فكان بعد إذا سئل (أي الرجل) يقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
5- يجب أن نفهم الدعاء على أنه عزة للمؤمن:
فلقد أرشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في وصيته المشهورة بقوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) الترمذي وأحمد، وهذا التوجيه من قبله - عليه الصلاة والسلام - بالسؤال من الله وحده هو عزة للمؤمن، وشرف له وفخر، وهو نوع من أنواع التربية ليكون المسلم عزيزاً، لا يطلب إلا من الله، ولا يسأل إلا الله - سبحانه وتعالى -، وبالتالي تنمو عنده هذه العزة، وتكبر حتى تتمكن من كيانه، فيصبح عزيزاً لأنه لا يطلب إلا من الله - سبحانه -، وليس لأحد منَّة عليه، ولقد كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه -: (ولا تسألن أحداً ولو سقط سوطك) انفرد به أحمد، وروى الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يتقبل لي بواحدة أتقبل له بالجنة) قال: قلت أنا يا رسول الله قال: (لا تسأل الناس شيئاً) قال: فربما سقط سوط ثوبان وهو على بعيره فما يسأل أحداً أن يناوله حتى ينزل إليه فيأخذه.
إن الله - سبحانه وتعالى - فتح باباً للولوج إلى هذه العزة، وهذا الباب هو باب الدعاء، وباب (إذا سألت فاسأل الله) فأي عزة تلك التي أرادها الله - سبحانه - لعباده المؤمنين، وأي باب فتحه حتى يصل المؤمن لهذه العزة، إن الدعاء عبادة عظيمة وعبادة معطلة عند المسلمين، وإن المسلمين إذا فعلوا هذه العبادة تفعيلاً إيجابياً وفق ما ذكرناه فإن ذلك سيكون خطوة كبير بالاتجاه الصحيح، وقفزة نوعية في عبادة عظيمة مثل عبادة الدعاء، والحمد لله أولاً وآخراً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد