بسم الله الرحمن الرحيم
الأسباب المعينة على التلذذ بالأعمال الصالحة:
هناك جملة من الأسباب تساعد العبد وتعينه على التلذذ بالأعمال الصالحة، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1 - مراقبة الله - تعالى- وإخلاص العمل له:
قال ابن الجوزي: \"الحق - عز وجل - أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه، البعيد منه، فأمر بقصد نيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له، فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا.
والمتيقظون علموا قربه، فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط..... إلى أن قال: ومتى تحققت المراقبة حصل الأنس، وإنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة، لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسار المستوحشين، وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنه في مجرد الصلاة والصيام، إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر واجتناب النهي.
هذا هو الأصل والقاعدة الكلية، فكم من متعبد بعيد، لأنه مضيع الأصل وهادم للقواعد بمخالفة الأمر وارتكاب النهي.
وإنما المحقق من أمسك ذؤابة ميزان المحاسبة للنفس، فأدى ما عليه واجتنب ما نهى عنه، فإن رزق زيادة تنفل وإلا لم يضره والسلام\" ا. ه(1).
قال عبد الواحد بن زيد: عصفت بنا الريح على جزيرة في البحر، فإذا برجل يعبد صنماً، فقلنا له: أيها الرجل مَن تعبد؟ فأومأ بيده إلى الصنم، فقلنا له: إن معنا في المركب من يعمل هذا، قال: فأنتم مَن تعبدون؟ قلنا: نعبد الله - تعالى -. قال: ومَن هو؟ قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه. قال: كيف علمتم هذا؟ قلنا: وجه إلينا رسولاً أعلمنا به. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: قبضه الله إليه. قال: فهل ترك عندكم علامة؟ قلنا: ترك عندنا كتاب الملك. قال: أرونيه. فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا. فقرأنا عليه سورة وهو يبكي، ثم قال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى، فأسلم، وحملناه معنا، وعلمناه شرائع الإسلام، وسوراً من القرآن، فلما جن الليل صلينا وأخذنا مضاجعنا، فقال: يا قوم، الإله الذي دللتموني عليه أينام إذا جنه الليل؟ قلنا: لا، يا عبد الله، هو حي قيوم لا ينام. قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام؟! فعجبنا من كلامه، فلما قدمنا عَبدان (2) جمعنا له دراهم وأعطيناها له، وقلنا له أنفقها. قال: لا إله إلا الله، دللتموني على طريق لم تسلكوه، أنا كنت في جزيرة في البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني فكيف الآن وقد عرفته؟! (3).
2 - مجاهدة النفس:
قال - تعالى -: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ){العنكبوت: 69}.
وعن ابن أبي رزين قال: قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة (4).
وقال العلامة ابن القيم: \"وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة على التكره والتعب أولاً، فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذة، قال أبو يزيد: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك\" ا. ه (5).
3 - تدبر القرآن والمعرفة بأسماء الله وصفاته:
قال الإمام ابن تيمية: \"كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة... فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيماً، ويقوى ذلك كلما ازداد العبد تدبراً للقرآن، وفهماً ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون - تعالى -معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذى يطمئن إليه ويأنس به، ويلتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى كان للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكاً لا صلاح معه، ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه\" ا. هـ (6).
4- الإكثار من النوافل:
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الله - تعالى -قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه \" (7).
قال ابن رجب: \"المراد بهذ الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة\" ا. هـ (8).
5 - مصاحبة الصالحين ومنافستهم في الأعمال الصالحة:
ومن ذلك صلاة الجماعة والجمعة والعيد، والحج، والحضور في حلق العلم، وقد سبق بعض أخبار السلف التي تشير إلى هذا المعنى.
6 - العناية بالعبادات الفردية:
ومن ذلك قيام الليل والاعتكاف وذكر الله في حال الخلوة، وأيضاً سبقت الإشارة إلى هذا.
7 - القراءة في النصوص المرغبة في الأعمال الصالحة:
ولهذا نجد أن طريقة الكتاب والسنة القرن بين الأمر والترغيب فيه، وبين النهي والترهيب منه، ولقد اعتنى العلماء ببيان النصوص الواردة في الترغيب والترهيب، بل قد أفردها بعضهم بالتصنيف (9).
وتذكر الثواب والأجر الذي أعده الله لمن أدى ذلك العمل يهون عليه كل مشقة قد توجد في ذلك العمل، بل تنقلب تلك المشقة إلى لذة ومتعة.
8 - تدبر العبد لما يقرأ به في عبادته:
عن حذيفة بن اليمان قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: \"سبحان ربي العظيم\"، فكان ركوعُه نحواً من قيامه، ثم قال: \"سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد\"، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد، فقال: \"سبحان ربي الأعلى\"، فكان سجوده قريباً من قيامه (10).
9 - التنويع في العبادات وفي صفاتها:
لقد جاءت الشريعة بالتنويع في العبادات، فمنها ما هو بدني، ومنها ما هو مالي، ومنها ما هو بدني مالي، ومنها ما هو عمل ظاهر، ومنها ما هو عمل باطن.
وأيضاً جاءت الشريعة بالتنويع في صفات عبادات كثيرة، فتجد العبادة الواحدة لها أكثر من صفة، وكل هذه الصفات مشروعة، فبأيها أتى العبد فإنه يكون محسناً.
ومن الحِكَم في ذلك والله أعلم دفع الملل عن النفس، وعدم تحول العبادة إلى عادة، فإن الإنسان عند تنويعه في العبادات وصفاتها يستحضر أنه متبع لأوامر ربه، مقتد بهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يورثه لذة يجدها في قلبه.
10 - الدعاء:
عن رفاعة الزرقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم أحد بدعاء طويل، وفيه: \"اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين\"(11).
آثار لذة الأعمال الصالحة:
للذة التي يجدها العبد عن العمل الصالح آثار مباركة، ومن هذه الآثار:
1 - الإحساس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان:
قال ابن رجب: \"إذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان، ولهذا قال يوسف - عليه السلام -: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه 33 - صلى الله عليه وسلم - يوسف: 33}.
سئل ذو النون: متى أُحبٌّ ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أَمرَّ عندك من الصبر. وقال بشر بن السري: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك\" ا. هـ (12).
2 - الثبات على دين الله:
قال ابن القيم - واصفاً حال الإنسان عند وصوله إلى مرتبة التلذذ بالأعمال الصالحة -: \"ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ يصير نعيمه في سيره، ولذته في اجتهاده، وعذابه في فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته، ووقوفه عن سيره\" ا. هـ(13).
وقد سبق قول هرقل: وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
3 - النشاط في أداء العبادة:
قال العلامة ابن القيم: \"السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق، فصارت قرة عين له وقوة ولذة، فتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عملاً عليه، ويستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها! \"ا. هـ(14).
4 - طيب العيش في الحياة الدنيا:
قال - تعالى -: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى\" وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 97 - صلى الله عليه وسلم - النحل: 97}.
قال الحافظ ابن كثير: \"هذا وعد من الله - تعالى -لمن عمل صالحاً - وهو العمل المتابع لكتاب الله - تعالى- وسنة نبيه - من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت\" ا. هـ (15).
وفي المقابل:
قال الله - تعالى -: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى){طه: 124}.
قال الحافظ ابن كثير: \"أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه، فإن له معيشة ضنكا\" أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم في ظاهره، ولبس ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة\" ا. هـ (16).
يقول ابن القيم: \"والإقبال على الله - تعالى- والإنابة إليه والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي، لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: \"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك \" ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه - تعالى -والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ){الحديد: 13}.
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الارض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله - تعالى -ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فبمحبة الله - تعالى- ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله - عز وجل -، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات\" ا. هـ (17).
5 - أن العمل الصالح يكون عند الإنسان أحب إليه من الدنيا وما فيها:
جاء في ترجمة عاصم بن أبي النجود أنه كان إذا صلى ينتصب كأنه عود، وكان يكون يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابداً خيراً يصلي أبداً، ربما أتى حاجة، فإذا رأى مسجداً قال: حل بنا، فإن حاجتنا لا تفوت، ثم يدخل فيصلي (18).
وعن موسى بن طريف قال: كانت الجارية تفرش لعلي بن بكار، فيلمسه ويقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، وكان يصلي الفجر بوضوء العتمة (19).
موانع حصول اللذة بالأعمال الصالحة:
هناك أمور تحول بين العبد وبين التلذذ بالأعمال الصالحة، أذكر منها ما يلي:
1- المعاصي والذنوب:
قال ابن الجوزي: \"قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من هَمَّ.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعم فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك\" ا. هـ (20).
2 -كثرة مخالطة الناس:
قال ابن الجوزي: \"كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلباً طيباً، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة.
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة.
ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة، وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله\" ا. ه (21).
3- تحول العبادات إلى عادات:
قال الحافظ ابن رجب: \"كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منهم لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم، مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته، جرياً منه على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان، ومن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكرهه الله منه، وينفر منه وإن كان ملائماً للنفوس، كما قيل:
إن كان رضاكم في سهري *** فسلام الله على وسني\" (22).
4 - النفاق:
لذة العبادة إنما يشعر بها المؤمن الصادق في إيمانه، كما جاء في حديث أبي أمامة (23) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن \".
واختم بكلمة نقلها العلامة ابن القيم عن ابن تيمية قال: \"سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب - تعالى- شكور.
يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول\" ا. هـ.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------
الهوامش:
(1) \"صيد الخاطر\" (ص199).
(2) قرية من قرى مرو. انظر: \"معجم البلدان\" (4-77).
(3) \"غذاء الألباب\" للسفاريني (2-505) نقلاً عن كتاب \"المورد العذب\" لابن الجوزي.
(4) \"سير النبلاء\" (5-224).
(5) \"طريق الهجرتين\" (ص321).
(6) \"مجموع الفتاوى\" (22-606).
(7) رواه البخاري.
(8) \"جامع العلوم والحكم\" (2-273).
(9) ومن أشهر الكتب في ذلك كتاب \"الترغيب والترهيب\" للحافظ المنذري، وهو كتاب مفيد، وإن كان فيه بعض الأحاديث الضعيفة فيجتنب الضعيف، ويستفاد من الأحاديث الصحيحية التي فيه.
(10) رواه مسلم في \"صحيحه\" (772).
(11) رواه أحمد (3-424) والبخاري في \"الأدب المفرد\" (699).
(12) \"فتح الباري\" (1-58).
(13) \"طريق الهجرتين\" (ص321).
(14) \"مدارج السالكين\" (2-354).
(15) \"تفسير القرآن العظيم\" (4-601).
(16) \"تفسير القرآن العظيم\" (5-222).
(17) \"الوابل الصيب\" (93).
(18) \"سير النبلاء\" (5-259).
(19) \"سير النبلاء\" (9-585).
(20) \"صيد الخاطر\" (51).
(21) \"صيد الخاطر\" (ص78).
(22) \"لطائف المعارف\" (289).
(23) رواه الحاكم وصححه (1-14).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد