بسم الله الرحمن الرحيم
شيء خفيف على النفس واللسان، ثقيل عند الله في الميزان، به تطمئن القلوب وتزول المكاره والكروب، به يستجلب الغنى وأنواع الفوائد، ويطرد الغم والنكد والشدائد، به تملأ القلوب سروراً، وتكسى الوجوه نوراً، ومع ذلك كله فقد فُضل على الصدقة والجهاد. إنه ذكر الله - تعالى -، فما هو الذكر أيها الإخوة؟
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: \"المراد بالذكر الألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها مثل: الباقيات الصالحات وهي (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) وما يلتحق بها من الحوقلة، والبسملة، والحسبلة، والاستغفار ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أو جبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة\". انتهى.
فالذكر أنواع منها: ذكر أسماء الله - تعالى - وصفاته ومدحه والثناء عليه بها نحو: سبحان الله، ولا إله إلا الله.
ومنها الخبر عن الله - عز وجل - بأحكام أسمائه وصفاته نحو: الله - عز وجل - يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم.
ومنها: ذكر الأمر والنهي كأن تقول: إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا.
ومنها: ذكر آلاء الله وإحسانه.
وأفضل الذكر تلاوة كتاب الله - عز وجل -.
وقد جاء في فضل الذكر ما لا يعد ولا يحصى من الآيات والأحاديث وحسبنا أن نشير إلى بعضها على سبيل الإيجاز: -
فمن القرآن قوله - تعالى -: (ولذكر الله أكبر) (العنكبوت: 45). ومعناها أن ذكر العبد ربه أفضل من كل شيء، وقوله - تعالى -: (فاذكروني أذكركم) (البقرة: 152). وقوله - تعالى -: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) (الأحزاب: 35).
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (متفق عليه). وقوله - صلى الله عليه وسلم - (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس) (رواه مسلم).
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (متفق عليه).
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالو: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله - عز وجل - (رواه الإمام أحمد وغيره).
والأحاديث في الذكر كثيرة جداً، وعلى الرغم من أن الذكر من أيسر العبادات إلا أن العطاء والفضل الذي رُتب عليه لم يُرتب على غيره من الأعمال، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال: لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه).
وفي البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه مثل الحي والميت).
لكن لا يغيب عنا ما ذكره بعض العلماء من أن الفضائل الواردة في الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال، كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام، فلا يظن أن من أدمن الذكر وأصرّ على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أن يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح، فتنبهوا بارك الله فيكم.
أيها الإخوة: كما سمعنا ونسمع عن فضائل الذكر ولكننا عن تلك الفضائل غافلون، ومن تلك الأجور محرومون، كم نحن بحاجة إلى الذكر والمداومة عليه، ليجلو صدأ قلوبنا، كما نضيع من الأوقات التي لا تستغل إلا بالذكر فتضيع علينا، خذوا على سبيل المثال: ركوب السيارة والانتقال من مكان إلى مكان، والانتظار في الأماكن العامة كالمستشفيات والدوائر الحكومية، لو استغلها المرء بالذكر لكانت خيراً له من سائر أوقاته وهي عنده أوقات ضائعة، فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من ذكر الله - تعالى - فإن غنيمة وربح ومكاسب عظيمة في أعمال يسيرة، فأكثروا من ذكره بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، ليكن ذكر الله - تعالى - في قلوبكم قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم، كونوا متذكرين دائماً لعظمته وجلاله وكمال أسمائه وصفاته وأفعاله. أذكروا الله - تعالى - بألسنتكم يقول: (لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر) وإعلموا أن كلّ قول من الخير تريدون به وجه الله فهو من ذكر الله، وكل فعل بجوارحكم تعملون به طاقة أو تتركون به معصية تقرباً إلى الله فهو من ذكر الله - تعالى -.
أيها الإخوة في الله: إن الحديث عن الذكر حديث ذو شجون، وحسبنا في هذه الدقائق أن نتذكر ونستيقظ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وإلا فقد كتب العلماء في الذكر مؤلفات كثيرة، وما إفراده بالتأليف والكتابة إلا لعظيم منزلته وجلالة قدره، فمن أراد الاستزادة فليطالع كتاب (الأذكار) للإمام النووي، و(الوابل الصيب من الكلم الطيب) لابن القيم، والكلم الطيب) لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله - تعالى -. وفي الختام أودُ الوقوف معكم وقفتين: -
الوقفة الأولى: حول آداب الذكر وأحكامه:
أولاً: أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح أو التهليل والتحميد ونحوها، بل كلّ عامل لله - تعالى - بطاعة فهو ذاكر له.
ثانياً: ينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فإن كان جالساً استقبل القبلة وجلس متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار، هذا من حيث الأفضلية، وإلا فيجوز الذكر على كل حال، وينبغي أن يكون الذكر في مكان خالٍ, نظيف، ولهذا مدح الذكر في المساجد والمواضع الشريفة.
ثالثاً: أن الذكر مشروع بالقلب واللسان للمحدث والجنب، والحائض والنفساء، والذي يُمنع منه الجنب هو قراءة القرآن، مالم يقرأه على سبيل الدعاء كقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فلا حرج مالم يقصد به القرآن.
رابعاً: أن الذكر مستحب في جميع الأحوال إلا في أحوال ورد الشرع باستثنائها كحال قضاء الحاجة وحال الجماع، والإنصات لسماع الخطبة، والقيام في الصلاة والنعاس، وهناك أحوال تعرض للذاكر ينبغي له قطع الذكر بسببها، ثم يعود إليه بعد زوالها، كما سُلم عليه فيرد السلام ويعود للذكر، وإذا عطس عنده عاطس شمته ثم عاد لذكره، وإذا سمع المؤذن تابعه ثم عاد إلى الذكر، وإذا رأى منكراً أزاله ثم عاد وهكذا.
خامساً: أن كل ذكر أو دعاء مقيد بزمان أو مكان فإنه يؤتى به في مكانه وزمانه وفي لفظه الوارد فيه، هذا في الأدعية والأذكار الواردة، فإن أراد الإنسان أن يأتي بذكر أو دعاء لم يرد في الكتاب ولا في السنة، بل أتى به من عند نفسه أو من المنقول عن السلف، فإنه يجوز له ذلك لكن بشروط وهي: أن يتخير أحسن الألفاظ وأجملها وأبينها على وفق المعنى العربي ليس فيها محذور شرعي، وأن يكون ذلك في باب الذكر والدعاء المطلق لا المقيد بزمان أو مكان أو حال، وألاّ يتخذه سنة راتبة يواظب عليها.
الوقفة الثانية: حول فوائد الذكر، فقد ذكر العلماء للذكر فوائد عديدة حتى إن ابن القيم - رحمه الله - في كتابه المشهور (الوابل الصيب) عدّ للذكر أكثر من سبعين فائدة، وها نحن نوجز القول بذكر شيء منها:
1- أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويسكره، ويرضي الرحمن - عز وجل -، ويزيل الهمّ والغمّ والحزن، ويجلب للقلب الفرح والسرور والانبساط.
2- أنه يقوي القلب والبدن، وينّور الوجه والقلب، ويجلب الرزق.
3- أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة.
4- أنه يورث المهابة والمراقبة حتى يدخل العبد في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ويورث الإنابة والقرب، فعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه وعلى قدر غفلته يكون بُعده عنه.
5- أنه يورث ذكر الله - عز وجل - للعبد، قال - تعالى -: (فاذكروني أذكركم) (البقرة: 152). وفي الحديث القدسي: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) (متفق عليه).
6- أنه يورث حياة القلب، كما قال شيخ الإسلام إبن تيمية ـ - رحمه الله -: - الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.
7- أنه يورث جلاء القلب من صداه، وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار.
8- أنه يحطُ الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات، قال - صلى الله عليه وسلم - (من قال في يوم وليلة: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطت عن خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) متفق عليه).
9- أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل.
10- أن كثرة الذكر أمان من النفاق، لأن المنافقين قليلو الذكر لله - تعالى -(ولا يذكرون الله إلا قليلاً) (النساء: 142).
أسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من الذاكرين له كثيراً، وأن يتقبل منا ويغفر لنا ولوالدينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد