المحاسبة لماذا وكيف ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.

 

إخوةَ الإسلامِ:

قوارعُ الحقِّ تَصكٌّ أسماعَنا صباحَ مساءَ، فهل من مُجيب؟ والنفسُ الأمارةُ بالسوءِ تحاولُ أن تُردِي أصحَابَها فهل من وقفةٍ, ومحاسبة؟ ((يَومَئِذٍ, تُعرَضُونَ لا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ)) [الحاقة: 18].

 

هكذا يكونُ العرضُ، وكذلكَ تكونُ الدقةُ في المحاسبةِ، ((ووُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظلِمُ رَبٌّكَ أَحَدًا)) الكهف: 49].

 

يا أخا الإسلامِ:

قف وسائل نفسَكَ ماذا أعددتَ لهذا اليوم؟ كيف تتقيهِ اليوم؟ وفي ديوانِ الشعراءِ (أبي العتاهية):

 

أأُخيَّ إنَّ أمامنا كرباً لها *** شغبٌ وإنَّ أمامَنا أهوالا

 

إنَّ الدارَ مـدبـرةٌ وإن كُنَّا *** نرى إدبارَها إقبالا

 

قال العالِمون (الماوردي): إنَّ على الإنسانِ أن يتصفحَ في ليلهِ ما صدرَ من أفعالِ نهاره، فإن كانَ محموداً أمضاهُ واتبعهُ بما شاكلهُ وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركهُ إن أمكن، وانتهى عن مثلِهِ في المستقبل (أدبُ الدنيا والدين/342).

 

وقال آخر: أضرٌّ ما على المُكلفِ الإهمالُ وتركُ المحاسبةِ، والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتها، فإنَّ هذا يؤلُ بصاحبهِ إلى الهلاك، وهذا حالُ أهلِ الغرور، يَغمضُ عينيهِ عن العواقبِ، ويُمشِّي الحال، ويتكلُ على العفوِ فيهملُ محاسبةَ نفسهِ والنظرَ في العاقبة، وإذا فعلَ ذلك سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنسَ بها، وعسُرَ عليه فطائها\" (ابن القيم إغاثة اللهفان 1/95).

 

عبادَ الله: ومن أقوالِ السلفِ إلى أعمَالِهم وحرصِهم على مُحاسبةِ أنفسهم، فهذا عُمر يدخلُ حائطاً فسمعهُ أحدُ المسلمين وهو لا يدري يقولُ: عُمر!! أميرُ المؤمنين؟!

 

بخٍ, بخٍ,، والله يا بُنيّ الخطابِ لتتقيَّنَ اللهَ أو ليعذبنَّك. (الزهد لأحمد/171).

 

وجاءهُ رجلٌ يشكو إليهِ وهو مشغولٌ فقالَ لهُ: أتتركونَ الخليفةَ حين يكونُ فارغاً، حتى إذا شُغلَ بأمرِ المسلمينَ أتيتُموه، وضربَهُ بالدٌّرة، فانصرفَ الرجلُ حزيناً فتذكى عمرُ أنَّه ظلمه، فدعا بِهِ، وأعطاهُ الدرةَّ، وقال لهُ: اضربني كما ضربتُك، فأبى الرجلُ، وقال: تركتُ حقي للهِ ولك، فقال عمر: إمَّا أن تتركهُ لله فقط، وأمَّا أن تأخذَ حقَكَ، فقال الرجلُ: تركتهُ لله، فانصرفَ عمرُ إلى منزلهِ فصلى ركعتينِ ثُمَّ جلس يقولُ لنفسه: يا ابنَ الخطابَ كُنتَ وضيعاً فرفعكَ الله، وضالاً فهداكَ الله، وضعيفاً فأعزَّكَ الله، وجعلكَ خليفةً فأتاكَ رجلٌ يستعينُ بك على رفعِ الظُلمِ فظلمته، ما تقولُ لربكَ غداً إذا أتيتهُ؟ وظلَّ يُحاسبُ نفسهُ حتى أشفقَ الناسُ عليه. (مناقبُ أميرِ المؤمنينَ عُمر بن الخطاب لابن الجوزي/171).

 

للهِ درُكَ يا عُمر على هذا العدلِ والإنصافِ والمحاسبة، أينَ نحنُ من عُمر؟ كم نظلمُ أنفُسَنَا بفعلِ المعاصي، فهل نُحاسِبُها؟ وكم يقعُ منَّا ظُلمٌ على غيرِنا، فهل نتَّقي اللهَ ونرجعُ ونردٌّ المظالم، ونستأذنُ من ظلمنا، ونلومُ أنفسنا؟ إنَّها نفوسُ الكبارِ.

 

 ترُوَضُ على العدلِ والبرِ والإحسانِ، وإذا وقعت في الخطيئةِ عادت تلومُ وتستغفرُ وتُحاسبُ، إنَّها الكيَاسَةُ التي أخبرَ عنها المصطفى- صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعدَ المَوتِ، وَالعَاجِزُ مَن أَتبَعَ نَفسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِي)) (رواهُ الترمذي وحسنهُ وصححهُ الحاكمُ والذهبي/ المستدرك 4/280).

 

قال الترمذيٌّ: معنى: «مَن دَانَ نَفسَهُ» أي: حَاسَبَها في الدُنيا قبلَ أن يُحاسبَ ليومِ القيامة.

 

أيٌّها المسلمون:

 

الأمرُ في محاسبةِ النفسِ غايةً في الأهميةِ، ولئن كانَ شاقاً اليومَ فعاقبتُهُ الخيرُ والفلاحُ غداً.

 

ورحمَ اللهُ القائلَ: اقرَعُوا هذهِ الأنفسُ فإنَّها طُلعةٌ، وإنَّها تُنازِعُ إلى شرِ غاية، وإنَّكم إن تُقـارِبُوها لم تبق لكم من أعمالِكم شيئاً، فتصبَروا وتشددوا، فإنَّما هي أيامٌ تُعدٌّ، وإنَّما أنتم ركبٌ وُقُوفٌ يُوشَكُ أن يُدعى أحدُكُم فيجيبُ ولا يلتفت، فانقلبوا بصالحِ من بحضرتكم (الحلية 2/144 عن الحسن).

 

عبادَ الله:

 

إنَنَا نُخطِئُ بالليلِ والنهارِ، أفلا نتُوبُ ونستغفرُ؟ ومن يستغفرِ اللهَ يجدِ اللهَ غفوراً رحيماً.

 

تصور يا عبدَ اللهِ لو أنَّ كلَّ ذنبٍ, عصيتَ اللهَ بهِ رُميَ في بيتكَ مُقَابِلهُ حجراً؟ ألا تمتلئُ البيتُ من الحجارة، ألا تَضَيِّقُ عليكَ هذه الحجارةِ المسالك؟ ألا تُخَرِّبُ بيتك؟ فهل تتصورُ أنَّ اللهَ غافلٌ عمَّا تعمل، كيفَ والملكانِ المُوكلانِ بك يحفظانِ

 

 

ويكتبان: ((مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ, إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) (ق: 18).

 

((أَحصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)) (المجادلة: 6).

 

أيٌّها المُسلمون:

 

وفي زحمةِ الحياةِ وغرُورِها، ومطالبُ النفسِ وتطَلُعَاتِها، وتسابقَ الناسِ إلى الشَّرَفِ والسؤددِ، والرئاسةِ والمالِ والجاهِ والسلطان، في ظلِّ هذا كلهُ قد تغيبُ أو تضعفُ المُحاسبة، وعلى قدرِ الإيمانِ واليقينِ بحقائقِ الآخرةِ، تكونُ المُحاسبةُ، قال أحدُهم: مثلتُ نفسي في الجنةِ أكلُ من ثِمَارها، وأشربُ من أنهَارِها، وأعانقُ أبكارِها، ثُمَّ مثلتُ نفسي في النَّارِ آكلُ من زقُومِها، وأشربُ من صدِيدِها، وأعالجُ سَلاسِلها وأغلالها، فقلتُ لنفسي: يا نفسُ أيٌّ شيءٍ, تُريدِين؟ فقالت: أريدُ أنَّ أردَّ إلى الدنيا فأعملُ صالحاً؟ قلتُ: فأنتِ في الأمنيةِ فاعملي. (الزهدُ للإمام أحمد /501).

 

أعوذ بالله: ((وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى* فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى)) (النازعات: 40-41).

 

 اللهمَّ انفعنا بهدي القرآن، أقولُ ما تسمعونَ واستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنَّهُ غفاراً.

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ جعلَ الليلَ والنهارَ خلفةً لمن أرادَ أن يذَّكرَ أو أرادَ شُكوراً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، يُحاسِبِ على النقيرِ والقطمير، وما يعزُبُ عن ربِّكَ من مِثقالِ ذرةٍ, في الأرضِ ولا في السماء، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ- صلى الله عليه وسلم - وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.

 

يا أخا الإيمان:

 

أما وقد عرفتَ قيمةَ المُحاسبةِ وحاجتُنا إليها، بل وغفلةُ الكثيرِ منَّا عن مُمَارسَتِها، فقد يَردُ السؤالُ وكيف تتمُ مُحاسبةُ النفس؟ وما هي الأمورُ المعينةُ على هذهِ المحاسبة؟ ذكرَ أهلُ العلمِ: أنَّ المحاسبةَ الصادقةَ تعتمدُ على أمورٍ, ثلاثةٍ, هي:

 

- الاستنارةُ بنورِ الحكمةِ.

 

- وسوءُ الظنِّ بالنفسِ.

 

- وتمييزَ النعمةِ من النقمةِ، فكيف يتمٌّ ذلك؟

 

فأمَّا نورُ الحكمةِ فهو العلمُ الذي يُميز بهِ العبدُ بينَ الحقِّ والباطل، وكُلَّما كانَ حظٌّ العبدِ من هذا النورِ أقوى كانَ حظٌّهٌّ من المُحاسبةِ أتمٌّ وأكمل.

 

أما سُوءُ الظنِّ بالنفسِ فحتى لا يمنعُ ذلك من البحثِ والتنقيبِ عن المساوئِ والعيوب، ولأنَّ تزكيةَ النفسِ حاجبٌ عن مُحاسبتِها.

 

وأمَّا تمييزَ النعمةِ من النقمةِ، فلأنَّهُ كمٌ مُستدرجٌ بالنعم وهو لا يشعرُ، مفتونٍ, بثناءِ الجُهَّالِ عليهِ، مغرورٌ بقضاءِ الله حوائجهُ وسترهُ عليه. (مدارج السالكين 1/188).

 

وللهِ درٌّ الإمامُ أحمد حينما بلغهُ أنَّ المسلمينَ في بلادِ الرومِ كانوا - وهم في الغزو - إذا هدأ الليلُ رفعُوا أصواتهم بالدعاءِ له، وكانوا يرمُون المنجنيقَ باسمهِ حتى سقطَ رأسُ علجٍ, مع درقته، فلمَّا بلغَ أحمدُ الخبرَ تغيّر وجُههُ وقال: ليتهُ لا يكونُ استدراجاً (السير 11/210).

 

أيٌّها المسلمون:

وممَّا يُعينُ على المُحَاسبةِ ما قالهُ ابنُ القيم- رحمه الله -: ومن أنفعِ المحاسبةِ أن يجلسَ الرجلُ عندما يريدُ النومَ ساعةَ يُحاسبُ فيها على ما خسِرَهُ وربحهُ في يومهِ، ثُمَّ يُجددُ لهُ توبةً نصوحةً بينهُ وبين الله، فينامُ على تلكَ التوبة، ويعزمُ على ألاَّ يُعاودَ الذنبَ إذا استيقظ، ويفعلُ هذا كلَّ ليلة، فإن ماتَ من ليلتهِ ماتَ على توبة، وإن استيقظَ استيقظَ مستقبلاً للعملِ مسرُوراً بتأخيرِ أجلِهِ حتى يستقبلَ ربَّهُ ويستدركُ ما فات. (الروح لابن القيم/79).

 

ألا ما أحوَجَنَا إلى هذهِ الساعةِ من المُحَاسَبَة، وكم نغفلُ عنها، فهل نُمارِسُها قُبيلَ النومِ من الليلِ، والليلُ كما يُقالُ أخطرُ للخاطرِ وأجمعُ للفكر، (أدبُ الدنيا والدين).

 

يا أخا الإسلام:

حاسب نفسكَ على عملِ السيئاتِ، وهل استغفرتَ وكفَّرتَ عنها، وعلى عملِ الصالحاتِ؟ هل فرِحتَ بها، وسألتَ ربّكَ قُبولَها؟ حاسب نفسَكَ على نوعِ الكلامِ الذي صدرَ مِنكَ، وفرِّق بين الكلمةِ الطيبةِ والكلمةِ الخبيثة، حاسب نفسكَ على مطعمكَ ومشرَبك، وكلٌّ جَسدٍ, نبتَ على سُحتٍ, فالنارُ أولى به، وحاسب نفسكَ على العدلِ والإنصاف، والظُلمُ ظُلماتٌ يوم القيامة، حاسب نفسكَ على استثمارِ الوقتِ، والوقتُ أغلى ما نملكُ، والمغبُونُ من فرّطَ فيه، أو استخدمهُ فيما يُغضبُ الله.

 

والوقتُ أغلى ما عُنيتُ بحفظهِ *** وأراهُ أسهلُ ما عليكَ يضيعُ

 

حاسب نفسكَ على هُمُومِكَ، أهي للدنيا أم للآخرة؟ ((وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلَا تَبغِ الفَسَادَ فِي الأَرضِ)) (القصص: 77).

 

ما نصيبُ الإسلامُ من جُهدك؟ وما حضٌّ إخوانكَ المسلمينَ من اهتمامكَ ودعائِك؟ إلى غيرَ ذلكَ من ألوانِ المُحاسبةِ، وإيَّاكَ أن تكونَ من الغافلين، أو منَ الذين نسُوا اللهَ فأنساهم أنفسهم، إنَنَا بحاجةٍ, للمحاسبةِ، فهيَ سبيلٌ للاستقامةِ، ومن تزكَّى فإنَّما يتزكى لنفسهِ. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply