هموم وغموم .. أيها تعتريك ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أنبياء الله - جل وعلا - هم أصدق الناس طوية، تجردوا عن حظوظ أنفسهم وعاشوا من أجل بلاغ دينهم فكانت الآخرة همهم، فهذا نوح - عليه السلام - يمكث في دعوة قومه قرابة الألف عام، وهو يدعوهم إلى طاعة الله وعبادته، وليس له من هم إلا ذاك \" قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً\" \" ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً\" وهكذا نبينا - عليه الصلاة والسلام - فقد عاش يحمل هم أمته - عليه الصلاة والسلام -، ولذلك عاتبه ربه على ما يجده من هم وحزن في قلبه لعدم إيمان الكفار بدعوته قال الله \" لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين \" وقال \" فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً \" وقال \" ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون\" وقال \" قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون\" وقال \" ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون\" وقال \" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون\" كيف لا؟ وقد وصفه الله - عز وجل - بقوله \" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم \" ولو تأملت حق التأمل في سيرته وحياته - صلى الله عليه وسلم - لرأيت هم الدعوة وهو من هموم الآخرة جلياً واضحاً، ومن ذلك أنه لما ذهب إلى الطائف يدعوا أهلها إلى الإسلام كذبوه وأغروا به السفهاء فضربوه وأدموه، حتى أنه - عليه الصلاة والسلام - شغله هم الدعوة عن جراحه التي وقع فيها، وسنعرج على القصة بتمامها بعد قليل إن شاء الله - تعالى -، وقد ورث هموم الآخرة الصالحون من أمته - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم وتتبع أحوالهم، ومن ذلك، فهاهو عمر - رضي الله عنه - يقول لأصحابه يوماً \" تمنوا، فقال رجل منهم:أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله - عز وجل -، فقال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله - عز وجل - وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين.قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح\" [صفوة الصفوة1/367] وعندما يحلمون فإنما يحلمون بهموم الدين، لذا تتوافق أحلامهم، ومن ذلك ما رواه أبو داود بإسناده إلى بعض الأنصار قال: اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع يعني الشبور، وقال زياد شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له الناقوس فقال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال له: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت، فأراني الأذان، قال وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له \" ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت\" [أبو داود ح498] وقال عمر - رضي الله عنه -\" إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة \" [رواه البخاري في باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة] وهم الإسلام والآخرة في صدورهم حتى الرمق الأخير من حياتهم، ولما كان يوم أحد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\" من يأتيني بخبر سعد بن الربيع الأنصاري \" فقال رجل: أنا يا رسول الله فذهب الرجل يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع: ما شأنك فقال له الرجل: بعثني إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآتيه بخبرك قال \"فاذهب إليه فاقرأه مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواحد منهم حي\" [الموطأ 1013] وهذا عمر بن عبد العزيز لما مرض جيء له بطبيب فقال: به داء ليس له دواء، غلب الخوف على قلبه [سير أعلام النبلاء 5/137] ويقول ابن مهدي عن سفيان الثوري: كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة، ينهض مرعوباً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ولما حضرته الوفاة ذهبوا ببوله إلى الطبيب فقال: هذا بول راهب، هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما له دواء [سير أعلام النبلاء 7/270، 274] وهذا الإمام البخاري أرقه العلم وتدوينه فحرمه لذة الرقاد، قال محمد الوراق: كنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري ناراً ويسرج، ثم يخرج أحاديث، فيعلِّم عليها.[سير أعلام النبلاء 12/404]

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply