تأملات في قوله - تعالى - { يوم يفر المرء }


بسم الله الرحمن الرحيم

 

فاتقوا الله عباد الله, و تذاكروا مغادرة الدنيا و استقبال الآخرة فإن الساعة آتية لا ريب فيها, و والله ليبعثن الله من في القبور كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون فيها قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - :\"يعرف الآباء والأبناء والقرابات بعضهم بعضا كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه\", و قال - جل وعلا – {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرشِ يُلقِي الرٌّوحَ مِن أَمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ}, و مما قيل في تفسير يوم التلاق \"يلتقي فيه الظالم والمظلوم\", ومما لا شك فيه أن المظلوم يعرف الظالم, وفيه دليل على التعارف و لكن من تأمل قوله - تعالى -: { يوم يفر المرء من أخيه} أن المرء يعرف أباه وأخاه, و أمه, و وابنه, وصاحبته ولكن الملفت عند التعبير بقوله \"يفر\" يبسط في ذهن المؤمن صورة رهيبة من الرعب في قلب المرء حين أبصر أخاه, ولقي أباه, و قابل أمه نظر إليهم كأنه رأى شيئا مخيفا ففر منه قال ابن كثير: \" يراهم فيفر منهم و يبتعد عنهم لأن الهول عظيم, والخطب جليل \" و ما عرفنا الفرار في القرآن الكريم إلا في الشيء المخوف منه كما قال- جل ذكره-: { كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ - فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ, }, و قال - سبحانه -: {قُل إِنَّ المَوتَ الَّذِي تَفِرٌّونَ مِنهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم}, و قال- جل و علا -: { قُل لَن يَنفَعَكُم الفِرَارُ إِن فَرَرتُم مِن المَوتِ أَو القَتلِ}, و قال تقدس اسمه :{ وَيَستَأذِنُ فَرِيقٌ مِنهُم النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَورَةٌ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ, إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً}, و قال موسى: {ففرت منكم لما خفتكم}, وهذه الآيات تشهد بأن الفرار إنما يكون من شيء يخافه المرء مخافة أن يضره أو يفتك به...فلماذا يفر من أحب الناس إليه؟ ما هو الشيء الذي أخافه من أخيه, و أمه, و أبيه, و صاحبته, و بنيه؟ أليسوا هم الأحباب؟ أليسوا هم الذين كانوا يفتدونه بأنفسهم وبأغلى ما يملكون؟ أليسوا هم الذين كانوا يفتديهم هو بروحه وبأغلى ما يملك؟ فعلام الخوف إذن؟ قد نفهم ذهول المرضعة عن رضيعها... قد نفهم وضع ذات الحمل لحملها لكن الأمر هنا يعطينا صورة شديدة الرعب تهز القلوب هزا. و تصور المرء مفزوعا مرعوبا خائفا. من أعز الناس من أقرب الناس. من أحب الناس لدرجة الفرار و يطلق لساقيه العنان لو استطاع كي تفر من محبيه آه... لو فر المرء من الحبيب و من المحب فما عساه أن يفعل مع من ظلمه و صاحب الحق عليه مع من هتك عرضه. أو سفك دمه. أو أكل ماله مع من شتمه. مع من أساء إليه. مع من اغتابه أو ظلمه.. إن هذه الكلمة في هذه الآية تعبر عن مدى ضعف الإنسانº لأن الإنسان لابد أن يخطيء خاصة مع أعز الناس إليه, و من هنا جاء فراره منهم فلهم عليه حقوق لم يؤدها وحان وقت الأداء, و في الكلمة تعبير آخر عن مدى انشغال المرء بنفسه, ما هي فيه حتى وإن هلك كل الأقربين وأعز المحبين الأمر حين ذاك نفسي نفسي, لا أسألك اليوم إلا نفسي

وهذا يوجد العلاقة الصحيحة التي يجب أن يربط المرء علاقاته مع الآخرين على نسقها وفي مبادئها فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ, قال : {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح}, فالأواصر الدنيوية مهما كانت عميقة فإنها تتناثر في أدنى امتحان, و من هنا جاء التقرير الرباني الحق {الأَخِلاَّءُ يَومَئِذٍ, بَعضُهُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ إِلاَّ المُتَّقِينَ}, فالخلة حقا هي خلة التقوى, والرابط الصدق هي رابطة الدين, وأما النسب والصهر و الصداقة الدنيوية فقد تكون وبالا على أصحابها و قد تكون في الحقيقة عداوة كما قال - تعالى - :{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوّاً لَكُم فَاحذَرُوهُم}, ومن لم يحذرهم في الدنيا فحتما سيفر منهم في الآخرة, و ليس للمرء أن يتقي شر ذلك اليوم إلا بالفرار.... الفرار... لكنه فرار في الدنيا إلى المولى الرحيم والبر الكريم بتوبة نصوح, و عمل صالح وإيمان صادق فيناله من الطمأنينة والسكينة, يوم يفر كل حبيب عن حبيبه, و يتبرأ كل صديق من صديقه, ويتهم كل خليل خليله { فَفِرٌّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply