بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام ليس كلمة تُـقال باللسان فحسب، بل هو اعتقاد وقول وعمل.
فإذا صدق المسلم في إسلامه وتوجهه إلى الله أسلمت جوارحـه.
ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. رواه البخاري ومسلم.
وهذا من أفضل الناس منزلة.
والأعضاء بمثابة الرعية التي تتبع الملِك فالقلب هو ملك الجوارح، فإذا أسلم وصدق في توجهه إلى الله أذعنت الجوارح وانقادت لله.
قال - عليه الصلاة والسلام -: ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. رواه البخاري ومسلم.
ومن معاني إسلام الجوارح خضوعها لله - عز وجل - وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي، وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين. رواه مسلم.
ومن هذا المعنى ما يُقال في سجود التلاوة \" سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته \" رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
فلا بُـد لمن صدق في إسلامه أن تنقاد جوارحه لله - عز وجل -.
قال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل آمنت بالله فاستقم. رواه مسلم.
قال القاضي عياض - رحمه الله -: هذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، وهو مطابق لقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا) أي وحّدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا، فلم يحيدوا عن التوحيد، والتزموا طاعته - سبحانه وتعالى - إلى أن توفّوا على ذلك. اهـ.
فلا يكفي مُجرّد القول بل لابُـد من العمل، والاستقامة على الطريق القويم، جسداً وروحاً، وقلباً وقالباً.
يستقيم حتى في تعامله ومعاملاته.
يستقيم في قوله وفعله.
ليحصل التوافق والتطابق بين القول والفعل.
فإن المنافق هو الذي يتعارض قوله مع فعله، ولذا فـ (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ) تتناقض ظواهرهم مع بواطنهم، وإن قالوا ما قالوا بألسنتهم.
ولذا قال - سبحانه -: (إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)
وجاء في وصف ألسنتهم على وجه الخصوص (أَشِحَّةً عَلَيكُم فَإِذَا جَاء الخَوفُ رَأَيتَهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ تَدُورُ أَعيُنُهُم كَالَّذِي يُغشَى عَلَيهِ مِنَ المَوتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوفُ سَلَقُوكُم بِأَلسِنَةٍ, حِدَادٍ, أَشِحَّةً عَلَى الخَيرِ أُولَئِكَ لَم يُؤمِنُوا فَأَحبَطَ اللَّهُ أَعمَالَهُم وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
إذا أسلم العبد وانقاد لله - عز وجل - واستسلم على الحقيقة صار سمعه وبصره لله، فإن نظر نظر فيما أحل الله، وإن استمع ففيما أحل الله.
وإذا أسلم وصدق في إسلامه أسلمت يده ورجله لله، فإن بطش فـ لله، وإن مشى فـ لله.
ولذا قال - سبحانه وتعالى - في الحديث القدسي: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحـبّـه.
فماذا يُقابل تلك المحبة الربانيّـة؟
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.
ثم ماذا له من موعود الله - عز وجل -؟
وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. رواه البخاري.
هذا هو الذي أسلمت جوارحه لله، فأحبه الله، إن سأل فسؤاله مسموع، وإن استعاذ أعاذه مولاه. فسمعه وبصره لله، ويده ورجله لله.
فلا يستمع إلا ما يُرضي ربّـه.
ولا ينظر إلا فيما أحل الله له.
ولا يبطش ولا يضرب إلا لله.
ولذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: مـا ضَرَبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله - عز وجل -. رواه مسلم.
ولا يمشي إلا لله، فلا تحمله رجلاه إلى فاحشة ولا إلى مكان تُنتهك فيه محارم الله - عز وجل -. ولذا عُـد من الفخر قول معن بن أوس:
لعمرك ما أهديت كفي لريبة *** ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
ولست بماش ما حييت لمنكر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
إذا أسلمت الجوارح والأعضاء لله - عز وجل - سلِمت من زنا الجوارح
ذلكم الزنا الذي قال عنه - عليه الصلاة والسلام -: إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالةº فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنّى وتشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. رواه البخاري ومسلم.
فهل أسلمت جوارحنا لله؟
هل سلم الناس من ألسنتنا؟
هل سلم الأقربون - قبل غيرهم من ألسنتنا؟ فلم نغتب
ولم نَـنِـمّ
ولم نبهت
ولم نكذب
ولم نقل بقول الزور
ولا بشهادة الزور
ولا بالإفك نطقنا
ولا بالحلف الكاذب أكلنا
ولا إلى الشر سعينا
ولا بالأيادي ضاربنا وضربنا!
أيها الكرام:
إن اللسان أخطر جارحة، فإذا أسلم اللسان سلِم منه صاحبه قبل غيره
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج. رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
ومن حفظ جوارحه فقد ضمن له النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة.
قال - عليه الصلاة والسلام -: من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن له الجنة. رواه البخاري.
وقال - عليه الصلاة والسلام -: اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم.
وعن أبي قراد السلمي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بطهور، فغمس يده فيه، ثم توضأ فتتبعناه فحسوناه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما حملكم على ما صنعتم؟ قلنا: حب الله ورسوله. قال: فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدّثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم. رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، وهو في صحيح الجامع.
إن اللسان هو أكثر ما يُذهب الحسنات.
ولذا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقال: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذاº فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار. رواه مسلم.
أرأيتم كيف ذهبت حسناته التي تعب في جمعها في الدنيا؟
لقد ذهبت عن طريق لسانه ويده!
ما أسلم لسانه ولا أسلمت يده.
ما سلم المسلمون من لسانه ويده.
تأمل خطايا هاتين الجارحتين:
شتم هذا، وقذف هذا...من آفات اللسان.وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا... من آفات اليد.
فهل أسلمت جوارح من كان كذلك؟ ثم تأملوا حال تلك الصوّامة القوّامة المتصدّقة التي تفعل الخير.
قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتفعل، وتصّدق، وتؤذي جيرانها بلسانها. فقال: لا خير فيها، هي في النار. قيل: فإن فلانة تُصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بأثوار من أقط، ولا تؤذي أحدا بلسانها. قال: هي في الجنة. رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
أرأيتم كيف ذهبت حسنات تلك الصوّامة القوّامة المتصدّقة التي تفعل الخير، لقد أذهبها اللسان وحده!
فلا هي سلمت من تبعات وخطورة لسانها، ولا سلم أقرب الناس إليها من لسانها.
فإذا أسلمنا فلتسلم منا الجوارح
ولتنقاد ولتذعن لخالقها وباريها، مُعلنة أنها أسلمت لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد