بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما خُلقنا سدى، ولا خلقنا الله عبثا.. كلا، بل لمهمة عليا، وهدف أسمى،: لنعمر بالخير الأرض، ونعبد بالتوحيد الرب.
كلنا يعلم ذلك علما، وقليل من يعلم ذلك عملا..!!.
خلقنا: لنعمل.. لنكدح، ونكدّ ونتكبد، ونسعى، وليس للإنسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يَرى.
- {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
- {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}.
هذا العمل هو الآفة والصحة، وهو الشر والخير.. والإنسان هو من يختار، فقد جعل الله له عينين، ولسانا وشفتين، وهداه النجدين، وعليه اقتحام العقبة، فلا نجاة إلا باقتحام هذه العقبة.
والعقبة: شح النفس، وأمرها بالسوء، وسرعتها في الهلع والجزع.
- فاقتحام عقبة الشح: بالصدقة: بفك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة: يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة.
- واقتحام عقبة سوء النفس: بالإيمان بالله، واليوم الآخر.
- واقتحام عقبة الهلع والجزع: بالصبر، والمرحمة.
فمن تجاوز هذه العقبة، واقتحمها: تجاوز عقبة جهنم. [قيل جبل في جهنم]
كل الناس يعملون:
- المؤمن يعمل، والموحد يعمل، والمخلص يعمل، والعادل يعمل، والصالح يعمل.
- الكافر يعمل، والمشرك يعمل، والمنافق يعمل، والظالم يعمل، والفاسق يعمل.
لكن شتان ما بينهما، في الموضوع والجزاء.!.
- هذا عمل لله، وهذا عمل لغير الله.
- هذا أراد الآخرة، وهذا أراد الدنيا.
- هذا له الجنة، وهذا له النار.
هذا هو الفرق، لا غير ..!!.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه راهبا من النصارى، معتزلا في صومعة، يتعبد، فبكى وقال:
"رأيت هذا، فتذكرت قوله تعالى: {عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية}".
لأنه كان يعمل لغير الله تعالى، {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا}.
كان عبد الله بن جدعان رجلا سخيا، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله!، ابن جدعان كان في الجاهلية، يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟، قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". [مسلم في الإيمان، باب:من مات على الكفر لا ينفعه]
لا ينجو إلا العامل لله تعالى وحده، فلا العمل وحده ينفع، ولا الإخلاص وحده ينفع، والناس صنفان:
- صنف يعمل، ولله عمله. فهذا المفلح الفائز.
- وصنف يعمل، ولغير الله عمله. وهذا الخاسر.
فالعامل لله له: أجر الدنيا. وله: أجر الآخرة.
وأما العامل لغير الله تعالى، فلا ندري ما له ؟!!.
أما الآخرة فلا نصيب له فيها، وأما الدنيا فقد، وقد !!.
قد يكون له فيها نصيب، وقد لا يكون له فيها نصيب.
- ففي آية من القرآن: أخبر أن له نصيبا كاملا، مستوفى، بغير بخس.
- وفي أخرى: أخبر أن له بعض النصيب، لا كله.
- وفي ثالثة: أن ليس له أي شيء !!.
* فقال تعالى في الأولى: "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون". فهذه حالة الوفاء الكامل، من غير بخس.
* وأما حالة النصيب القليل فقال تعالى فيها: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}..فقال: {نؤته منها}.
* وأما حالة الخسارة الكاملة، لا ينال أجر دنيا، ولا آخرة، فقال تعالى فيها:{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا }. فليس كل من أراد الدنيا: ينالها. بل منهم من لا ينال شيئا، ولذا قال: {لمن نريد}، فثمة من لا يريد الله أن يعجل له شيئا من الدنيا، ولو سعى لأجلها، ومن عجل له فلا يعجل له كل ما يرجو، بل بقدر ما شاء الله تعالى: {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}.
إذن لم يعد الحكم كما كان في الأول:
- حالة الوفاء الكامل، لكل من عمل للدنيا.
- بل صار إلى الحالة الثانية: حالة النصيب القليل.
- ثم صار إلى الحالة الثالثة والأخيرة، واستقر عليها: حالة الخسارة الكاملة.
فمن طلب الدنيا، وعمل لغير الله تعالى: هو مهدد بحرمان الدنيا نفسها، التي سعى لأجلها، كما حرم أجر الآخرة. ولأجل ذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية: {ما نشاء لمن نريد}، ناسخة لآية: {نوف إليهم أعمالهم فيها}. [انظر: تيسير العزيز الحميد، باب: من الشرك إرادة الدنيا بعمل الآخرة].
ليس شيء أفظع من وعيد الله تعالى: موعظته تخلع القلوب. فكيف بتخويفه؟.
- {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون}.
سمع جبير بن معطم رضي الله عنه – وكان إذ ذاك مشركا – النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}، قال: "كاد قلبي أن يطير". [رواه البخاري في تفسير الطور]
اسمع إلى موعظته في إصلاح العمل، وإخلاصه: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير}.
اعملوا ما شئتم.. العمل لكم، ولكم الاختيار.. لكم ما تشاءون.. لا أحد يُكره، ولا مَلَك يجبر.. أنتم في محض الحرية، وكامل الإرادة. فاعملوا ما شئتم:
- آمنوا، صلوا، صوموا، تصدقوا، أحسنوا.
- اكفروا، تجبروا، اظلموا، افسقوا، ابخلوا.
كل ما بدا لكم اعلموا، لكن تذكروا أنكم لا تخفون، فهو بعملكم بصير، كله في كتاب، لا ينسى، ولايمحى، بل يبقى، حتى يأتي الموعد، وما أدراك ما الموعد.؟!.
- إذا لم تنفع المواعظ كلها من: ترغيب في ثواب جزيل، العقل يعجز عن تصوره، والأذن تعجز عن سماعه، والعين عن نظره، والقلب عن تدبره.
- وإذا لم ينفع الترهيب من عقاب أليم، لا يحتمله بدن، ولا تطيقه نفس، ولا يصبر عليه الصبور، ولا يصمد له الجبار.
- وإذا لم تنفع الحكمة والتعليل، وخطاب العقل والضمير.
- إذا لم تنفع هذه الحجج والبراهين، فما لكم من موعظة إلا أن يقال لكم:
اعملوا ما شئتم.. اعملوا ما شئتم.. اعملوا ما شئتم.!!.
امضوا في غروركم، واغرقوا في أمانيكم وغيكم.. سيروا كما تشاءون وتفرحون، فيوما ما ينكشف عنكم الوهم، وتزول الغشاوة، وتستفيقوا في حلم، لتعلموا أن الأمر جدّ: الوعيد شديد، والثواب جزيل، والحسرة كبيرة:
- {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.
- {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.
- {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}.
- {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير}.
- العامل للدنيا، للنفس.. العامل لغير الله.. الحائز لذات الدنيا.. الموفى نعيمه كاملا غير ناقص: غمسة واحدة في النار. تنسيه كل ما ذاقه، وأسرّه، وأعجبه.
- والعامل للآخرة.. العامل لله تعالى.. الفاقد جميع لذات الدنيا.. اليائس من سرورها: غمسة واحدة في الجنة. تنسيه كل ما مر به.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يؤتى بأنعم أهل الدنيا، من أهل النار، يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم!، هل رأيت خيرا قط؟، هل مر بك نعيم قط؟، فيقول: لا والله يا رب.
ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟، فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط). [رواه مسلم في صفة القيامة، باب:صبغ أنهم أهل الدنيا]
أين اللذات.. وأين الآلام ؟!! .. ذهبت مع الجحيم، والنعيم.
{أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة}؟!
- بعد أن سمعتم بما في النار، وعرفتم ما في النار، وأدركتم هول النار، وأحسستم بلسعها، وإحراقها.
- بعد أن سمعتم بنعيم الجنة، وعرفتم ما في الجنة، وذقتم بعض نعيمها.
- بعد أن أدركتم الفرق بين: الأمن والخوف، والنجاة والسقوط، يقول الرب جل شأنه لكم:
{أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة}؟!.
يسألكم لتجيبوا. ليجيب كل عن نفسه، ويجادل عن نفسه.. وبينما أنتم في حال الجواب: يبدركم بهذه القارعة: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.
هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
العلم حجة لك، أو عليك إذا لم تعقبه بالعمل؛ فالمؤاخذة والحساب لا يكون إلا بعد العلم:
- {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
كان أبو إسحاق الألبيري الأندلسي، المتوفى سنة 653هـ، من أهل العلم، نصح ولدا له بأبيات قال فيها:
وإن أعطيت فيه طول باع *** وقال الناس: إنك قد علمتا.
فلا تأمن سؤال الله عنه *** بتوبيخ: علمت، فهل عملتا؟
فرأس العلم تقوى الله حقا *** وليس بأن يقال: لقد رؤستا.
إذا لم يفدك العلــم خيرا *** فخير منه أن لو قد جهلتا
- أشياء كثيرة من الخير نعلمها، لكن لا نعمل بها..!!.
- وأشياء كثيرة من الشر نعلمها، نجدّ فيها ونسارع..!!.
صدق الله تعالى إذ يقول: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}.
نهلك إذا هلكنا عن بينة، ونحيا إن حيينا عن بينة، فما عاد لأحد عذر بجهل، فقد قامت الحجة، وما لنا إلا سؤال الله العفو والرحمة.
لا ندري: هل الفتن أكبر من طاقتنا ؟.
أم نفوسنا فيها دخن ؟!!، فما أن تعرض لنا فتنة، حتى نمد لها رؤوسنا، كالظمآن والمشتاق ..!!.
- نخادع بعضنا؟..: نعم.
- نخادع نفوسنا؟..: نعم.
لكن الله جل شأنه لا يخدعه أحد.. ولا يضره أحد؛ فهو فوق كل شيء.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
إذا لم يكن من الله عون للفتى، فأول ما يجني عليه اجتهاده.
الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب من العمل، وقد حدد أنواع العمل الطيب، فقال:
- {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}.
فاعرض نفسك عليها، وانظر ما فعلت، وما تركت ؟.. وقال:
- {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}.
فانظر فيها وتأمل، ماذا أتيت، وماذا نسيت ؟.
أخيرا: يوم القيامة يتذكر الإنسان، فما من مجلس جلس فيه، فلم يذكر الله تعالى، إلا كانت عليه حسرة، فالدنيا ساحة غنيمة.. لكن من الذي يدري، ومن الذي يغنم ؟!!.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد