بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
حج النبي -صلى الله عليه وسلم- لمرة واحدة، في آخر عمره..
حفظ الصحابة منسكه، وعرفوا قوله وأمره، ثم نقلوه للأمة كما هو، ما فات عليهم منه شيء، ولا وهموا.. فصارت حجته كرأي العين، فحج المسلمون من بعدهم قرونا، لا يشكون أنهم يحجون كحجته -عليه الصلاة والسلام-، ويتفاخرون باتباع السنة، ويفرحون به وما ذلك إلا لثبوت العلم عندهم بصورة الحجة النبوية تفصيلا لأن الأمة حفظت الصورة، فنقلتها بأمانة.
ومهما اختلف الناس في بعض الأنساك: أكان ركنا، أو واجبا. وبعضها: أكان واجبا، أم سنة. غير أنهم اتفقوا على الذي فعله، وتركه.. والذي أمر به، ونهى عنه.. واتفقوا على أن أتباعه وتقليده في المنسك هو الحج التام وعلامة القبول.. واتفقوا على أنه قال: (خذوا عني مناسككم).
وقسموا الأنساك إلى ثلاثة مراتب: أركان، وواجبات، وسنن. وفي بعضها هم متفقون، كما اتفقوا على ركنية الوقوف بعرفة، ووجوب رمي الجمار، وسنية المبيت يوم التروية.
وفي كل هذه القرون كان الناس يتسابقون ليحجوا كحجته، فبقيت صورة حجته كما هي، يتناقلها الأجيال، جيلا بعد جيل، لا يكاد يمر جيل لا يعرف كيف حج -صلى الله عليه وسلم-. والذين يفرطون في موافقتها، يجدون في أنفسهم حسرة أنهم لم يبلغوا بعملهم غايته، ويمنون أنفسهم بحجج أخرى لعلهم يظفرون بهذا الشرف.
في السنوات الأخيرة بدا تغير جذري حدثت وسائل اتصال جديدة، وتيسرت أمور كانت تعيق وصول الحاج إلى مكة، فتوفر للملايين الوصول إلى الحج، وهو حدث غير مسبوق، فلم يكن يصل إليه إلا ما يقارب مائة ألف، قد يزيدون مائة أخرى.
ومع هذه الزيادة استعصى وتعذر اتباع سنته -صلى الله عليه وسلم- في حجته، إلا بمشقة وعسر غير عادي، فرضي كثير من الناس أن يحجوا، ولو لم يبلغوا بحجتهم صورة الحج النبوي، مع علمهم بهذا القصور، لكن تعللوا بالتعذر، وهم محقون في بعض ما يقولون.
فقد كثر عدد الموتى بسبب من الزحام، وكثر تأخر الناس عن مزدلفة وليالي منى، وتعذر مقامهم، وشق على الناس الطواف والسعي إلا بصعوبة بالغة وصولا إلى البيت، وفي أداء العبادة نفسها.
في هذه الأثناء ظهر من يتهم الفتوى أنها سبب هذه المشكلات، خصوصا التزاحم والوفاة عند الجمرات، يوم الثاني عشر إذ ألزمت الناس الرمي بعد الزوال.
هنا بدت مشكلة أخرى كبرى إذ تصدى جمع من أهل العلم لمحاولة حل هذه المشكلة شرعيا، فرضوا ما نسب إلى الفتوى من تحملها هلاك الحجاج، وحملوها الفتوى هم أيضا. وبدء البحث عن التسهيلات والتوسيعات على الحجيج.. فماذا كان؟
حج النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة، وقال فيه: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، فكان من سنته وهديه في الحج:
- أنه أمر أصحابه الذين تحللوا أن يحرموا بالحج من مكة، ثم يخرجوا جميعا من أحل ومن لم يحل، إلى منى يوم الثامن، يوم التروية قبل الظهر، وفعل سائر الصلوات بوقتها، مع قصر الرباعية، إلى فجر اليوم التاسع يوم عرفة.
- ثم خرج إلى عرفة، فنزل بنمرة، حتى إذا زالت الشمس دخل عرفة فخطب الناس وصلى بهم جمعا وقصرا في وقت الأولى، ثم أتى الصخرات فاستقبل القبلة، فمكث يدعو حتى غربت الشمس، ثم دفع إلى مزدلفة.
- ولما بلغ مزدلفة نزل المشعر الحرام، فصلى فيه المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ثم أذن للضعفة بالدفع بعد منتصف الليل، وبات هو إلى أن أصبح فصلى الفجر، ثم ذهب يدعو حتى قبل طلوع الشمس.
- فذهب إلى منى فرمى الجمرة الكبرى، سبع حصيات، فحل من إحرامه، وتحلل التحلل الأول. ثم نحر الهدي، ثم حلق، ثم ذهب فطاف بالبيت، وسعى المتمتع، وكذا القارن والمفرد اللذان لم يسعيا قبل.. كل ذلك في يوم النحر، وبها تحلل التحلل الثاني والأخير.
- ثم رجع إلى منى فبات بها ثلاث ليالي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، يرمي كل يوم نهارا، بعد زوال الشمس الجمرات الثلاثة، مبتدأ بالصغرى، كل واحدة بسبع حصيات.
- وفي أثناء ذلك: رخص للرعاة أن يرموا يومين في يوم، وفي عدم المبيت لأجل رعيهم. ولم يلزم الناس بالأيام الثلاث، فترك للناس أن يختاروا التعجل في يومين، أو التأخر إلى ثلاثة.
- ثم لما انقضت أيام منى مضى إلى مكة، فطاف بالبيت طواف الوداع، وأسقطه عن الحائض.
هكذا حج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا كانت صورة وهيئة حجته..
ومراعاة لذوي الحاجات من مرضى وضعفة، وأصحاب تجارة كالرعاة، وأصحاب خدمة للحجيج كالسقاء: جعل لهم أن يتركوا بعض السنن الواجبة. تخفيفا عليهم، ولأنهم فعلوا الأصول والأركان.
لكن السواد الأعظم كانوا معه، يحجون كحجته، فلا يتحركون إلا بحركته، يفعلون كفعله: فلا ينفرون من عرفة إلا معه بعد الغروب، ولا يدفعون من مزدلفة إلا بعد الفجر، ولا يرمون الجمار إلا بعد زوال الشمس، ولا يبيتون إلا بمنى، ولا ينفرون إلا بعد طواف الوداع، ولا يتعجلون إلا في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، لا قبله.
وقد كان من العلماء من أفتى بفعل أشياء، هي خلاف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله كونهم فهموا أنها من السنن المستحبة غير الواجبة، فأجاز بعضهم الرمي قبل الزوال، ولم يوجب بعضهم الدم على من نفر من عرفة قبل الغروب، ومن مثل هذا، لكن مع كل ذلك فقد بقيت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهرة بينة، حفظها الحفاظ على السنة النبوية، والعاملون بها من المؤمنين.
وفي العقود الأخيرة، مع تطور وسائل النقل: برزت مشكلات، نتج عنها ضعف العمل بصورة الحجة النبوية، وتعذرها في كثير من الأحوال، فصار:
- كثير من الناس لا يبيت بمنى ليلة التروية وليالي التشريق لأنه لا يجد مكانا، أو لأنه لا يملك مالا يلحقه بحملة حج، وهو متشوق لأداء الفريضة.
- كثير من الناس لا يبيت بمزدلفة لتعذر الوصول إليها، لانسداد الطريق بكثرة المركبات.
وهذه الأعذار هي محل اتفاق بين العلماء فلا يوجبون على أحد من هؤلاء فدية، ولا يحملونه إثما لأنه ليست مما عملت أيديهم، ولأنهم لا يملكون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الغفور الرحيم.
فكل الذي حدث يباعد ما بين الناس وبين صورة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهناك أمور تباعدهم أكثر من ذلك؟!
- فالقول بجواز الدفع من عرفة قبل الغروب، دون أي حرج..!!..
- والقول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا..!!:
تزيد في الشقة ما بين الناس وبين سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتباعد، حتى يأتي يوم يكون لهم فيه حج غير حجه -صلى الله عليه وسلم-، ولن يكون حينذاك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خذوا عني مناسككم) معنى، ولا فائدة إذ لا مطبق له، مع تزايد الأعداد والمشكلات.
وقد كان من المشهور من عمل الناس، إتباعا للسنة، تعجلهم في يومين، بعد ظهر اليوم الثاني عشر، ومع تجويز الرمي قبل الزوال مطلقا، صار الناس يبتغون التعجل منذ الساعة الثانية عشرة ليلة الثاني عشر، أي قبل الوقت الفعلي بثنتي عشرة ساعة.. ؟!!.
ولو صار الناس بهذا الاتجاه: سيأتي يوم ينفرون فيه، منذ ليلة الحادي عشر.. بعدما يقضوا يوم النحر وليلته، فيكونوا بذلك متعجلين قبل اليوم الثاني عشر، وهو الوقت المقدر شرعا: بيوم ونصف اليومº أي يتعجلون في نصف يوم، لا في يومين.. !!
وذلك برمي يومين في يوم، في أحدهما، وقد رخص فيه، ويكون أحدهما هو اليوم الأول.. !!
ثم لو نفر الناس قبل الغروب، فمتى سينفرون؟
ليس لذلك حد ينضبط إلا انقضاء الخطبة والصلاة، ثم بعدها يبدأ الناس بالدفع أي منذ الساعة الثانية ظهرا، قبل الغروب بخمس ساعات أو أربع، فإذا هم بمزدلفة نهارا.. ؟!!.
فيستطيلون المقام بها، فيدفعون أول الليل بعد الصلاتين، فإذا هم بمنى عشاء، ثم يرمون بعد العشاء، ثم ينزلون مكة، فيطوفون قبل منتصف الليل، ويحلقون، ويهدون.. ؟!!.
فمن أجاز الدفع قبل الغروب من عرفة، يلزمه أن يجيز كل هذه الأنساك: أن يؤتى بها في غير وقتهاº إذ أدلتها ليست بأقوى من أدلة وجوب البقاء بعرفة حتى الغروب..
وهكذا يمضى الناس بمثل هذه الأقوال ينتهكون سنة النبي صلى عليه وسلم، ويخالفون قوله: (خذوا عني مناسككم)، حتى يأتي يوم لا يتبع فيه أحد السنة، وقد تخفى فتموت.
إن مشكلات الحج، وما يلقاه الناس من عنت في الحج، ليس مرده إلى الفتوى، وإلا لكانت كل فتاوى الحج مشكلة، وسببا في الضنك، والحرج، والهلاك.. !!.
أليست الفتوى، مجمعة ومتفقة، توجب البقاء في عرفة، وطواف الإفاضة.. وتبطل حج من لم يقف، ولا تصحح حج من لم يطف؟..
الجواب: نعم بالاتفاق..
حسنا: أفليس يقع فيهما المشقة والعنت الشيء الكثير، وربما مات جراء ذلك الضعفة والعجزة؟.
فهل سيحمل هذا على إسقاط هذه ((الأركان)) أيضا لأن فيها الزحام والهلاك؟!!!.
بقي أن نقول:
ما كانت السنة ولا العمل بها سببا في الهلاك البتة لأن إثبات أنها سبب، اتهام للشرع المنزل من الله -تعالى-الرحيم الغفور، الذي يسر لعباده دينهم: أنه شرع لهم ما فيه هلاكهم. وهذا لا يقوله مسلم.
إنما سبب الهلاك والموت سوء تصرف الناس، فعليه إذن: تعديل وتحسين هذه التصرفات. وقد شرعت الجهات المسئولة بهذا، فنظمت السير وأدارت تدفق الحجيج عند الجمرات، ومنذ ذلك لم يحدث شيء مما كان يحدث من قبل لما كان الحجاج يتدفقون إلى الجمرات بغير هدى.
في المسألة مناقشات فقهية جرت في مبحث آخر عنوانه: "الرمي قبل الزوال..من يحتمل الوزر"، وأما هذا المقال، فيعنى ببيان أثر التوسع في القول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا، والدفع قبل الغروب:أن آخره ضياع منسك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد