بسم الله الرحمن الرحيم
«لما فُتِحَت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيتُ أبا الدرداء جالساً وحده يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يومٍ, أعزَ اللهُ فيه الإسلام وأهله؟
فقال: ويحك يا جُبَير! ما أهونَ الخلق على اللهِ ـ عز وجل ـ إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ اللهِ فصاروا إلى ما ترى»(1).
حادثة غريبة رواها عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن والده رضي الله عنهما، وهو يستغرب موقف أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ الباكي الوحيد، ويستغرب تفاعل مشاعره المناقضة لمعظم مشاعر من حضروا فتح قبرص.
وهو الموقف الذي يذكرنا بموقف مؤمن آل فرعون، عندما وقف وحده، لينصح قومه المعرضين عن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ إليهم، لعلهم يفيقون ولا يغترون وينخدعون بحاضر ينذر بمستقبلٍ, مغاير: {يَا قَومِ لَكُمُ الـمُلكُ اليَومَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأسِ اللَّهِ إن جَاءَنَا} [غافر: 29].
ثم كانت فراسته التي تدل على عمق دراسته للتاريخ البشريº إذا تأملنا تحذيره: {يَا قَومِ إنِّي أَخَافُ عَلَيكُم مِّثلَ يَومِ الأَحزَابِ} [غافر: 30].
وهو نفس شعور وتخوٌّف خبير الفتن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عندما خالف غيرهº ووقف وحده، ولم يسأل عن الخيرº بل سأل صلى الله عليه وسلم عن أسباب الشر والفتن مخافة تداول الأيام، فتدركه وتهدد أمته.
عن أَبي إِدرِيس الخَولَانِي أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيفَةَ بنَ اليَمَانِ يَقُولُ: «كَانَ النَّاسُ يَسأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيرِ وَكُنتُ أَسأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَن يُدرِكَنِي.
فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ, وَشَرٍّ, فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيرِ فَهَل بَعدَ هَذَا الخَيرِ مِن شَرٍّ,؟
قَال: نَعَم!
قُلتُ: وَهَل بَعدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِن خَيرٍ,؟
قَالَ: نَعَم! وَفِيهِ دَخَنٌ.
قُلتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟
قَالَ: قَومٌ يَهدُونَ بِغَيرِ هَديِي تَعرِفُ مِنهُم وَتُنكِرُ.
قُلتُ: فَهَل بَعدَ ذَلِكَ الخَيرِ مِن شَرٍّ,؟
قَالَ: نَعَم! دُعَاةٌ إلَى أَبوَابِ جَهَنَّمَ مَن أَجَابَهُم إلَيهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفهُم لَنَا!
فَقَالَ: هُم مِن جِلدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلسِنَتِنَا.
قُلتُ: فَمَا تَأمُرُنِي إن أَدرَكَنِي ذَلِكَ؟
قَالَ: تَلزَمُ جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وَإمَامَهُم.
قُلتُ: فَإِن لَم يَكُن لَهُم جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟
قَالَ: فَاعتَزِل تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَو أَن تَعَضَّ بِأَصلِ شَجَرَةٍ, حَتَّى يُدرِكَكَ المَوتُ وَأَنتَ عَلَى ذَلِكَ»(2).
ولا تستغرب رهبة حذيفة ـ رضوان الله عليه ـ وقلقه من خطر تداول الأيام! إذا تدبرت ذلك التحذير من خطر المداولةº والذي جاء في سياق خطاب معلمه صلى الله عليه وسلم، وهو يحاور مندوب قريشº عتبة بن ربيعة، أثناء الجلسة التفاوضية، فأنذرهم: {فَإن أَعرَضُوا فَقُل أَنذَرتُكُم صَاعِقَةً مِّثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ, وَثَمُودَ} [فصلت: 13].
وهي كذلكº رؤية الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافرº وتدبر أهم وأبرز مفردات خطابه الديني الهادئ الراقي: {وَلَولا إذ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤتِيَنِي خَيرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرسِلَ عَلَيهَا حُسبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَو يُصبِحَ مَاؤُهَا غَورًا فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيتَنِي لَم أُشرِك بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف: 39 - 42].
ولقد ارتكزت أهم نقطتين في هذا الخطاب الديني الرائد على قاعدة فقه الرجل المؤمن لسننه ـ سبحانه ـ الإلهية:
فالنقطة الأولى: تبين فقهه لسنة الله في بطر النعمة وتغييرها، أو قانون النعم وتغييرها، أو الرؤية الإسلامية للتعامل مع النعم:
لقد «أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره إلى التصرف اللائق الصحيح، الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه. وطالبه بأن يلجأ إلى الله، وأن يعلِّق الأمر على مشيئته، ويجعله مرهوناً بقدرته، وأن يستمد قوته من قوة الله سبحانه »(3).
وهي رؤية خطاب التيار الإسلامي نفسها، في كل عصرº الذي يعبر عن رؤية أمة، اكتسبت خيريتها من الخروج إلى الناس، كل الناس، لتقودهم إلى خَيرَي الدنيا والآخرة، º أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، منطلقة من قاعدتها الإيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالـمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ الـمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
النقطة الثانية: تبين فقهه للسنن الإلهية في الذنوبº والظلم، والطغاة، والابتلاءº وهي القوانين الربانية التي من ثمار فقهها ومعرفتهاº الرؤية العميقة لقراءة مصير الأمم والجماعات والمؤسسات والأفراد.
وتدبر كيف ختم الرجل المؤمن حواره الهادئ، محذراً صاحبه من الخطر القادم من قِبَلِهِ سبحانه º ذلك الخطر الذي يأتي دوماً نتيجة لمقدمات معروفة، وحصاد لأسباب معلومة: {وَيُرسِلَ عَلَيهَا حُسبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَو يُصبِحَ مَاؤُهَا غَورًا فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 40 -41].
هكذا ختم حواره، بنبره تحذير وإنذار، معلناً في ثقة: إن الله عز وجل المعز المذل، قادر على أن يوكلك إلى سبب عزتك وبطرك وغرورك، ولن ينفعك عندما يرسل ما لم تحسب له حساباًº إن الله قادر على أن يهلك جنتيك ويدمرهما. فتوقع يا صاحبي صاعقة مدمرة، تدمر جنتيك، وتزيل ما فيهما، فتصبح كل واحدة منهما تراباً أملس أجرد. أو توقع أن يذهب النهر الذي بين الجنتين، وأن يغور في باطن الأرض بأمره سبحانه، ولن تستطيع أن تعيده!
وهي نظرة مستقبلية استشرافية، لا يدَّعي فيها الرجل المؤمن علمه بالغيب، ولكنها مبنية على قراءة تاريخية ماضوية، واستقراءٍ, لحاضر تشهد مسبباته بالمصير المستقبلي المتوقع.
فلمسنا كم كانت دراية ووعي الرجل المؤمن، بكل شهود التاريخ البشري، وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس أي في عالم الأحياءº وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق أي في عالم المادةº وهي السنن الإلهية الكونية.
وتوقع لصاحبه الكافر مصيراً، يفسره ويدركه كل من فقه السنن الإلهية المختلفةº والتي تعين على قراءة المستقبل من خلال استقراء الحاضر.
* فراسة يصنعها فقه حضاري:
ولو تدبرنا المواقف الراقية لهؤلاء الرواد العظامº لوجدنا الكثير من الملامح التربوية الطيبة:
1- قليلٌ هم أولئك الذين يفكرون عكس التيارº فيقرؤون المستقبل المغاير للحاضر، فيكون تفاعلهم مع الأحداث مختلفاً عن غيرهم.
2- قليلٌ هم كذلك الذين يفقهون سننه سبحانه الإلهيةº لأن هذا الفقه يهبه الله لمن يستجيب لندائه ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبلِهِم} [غافر: 21].
أي يقرؤون التاريخ فيتدبرون عوامل سقوط ونهوض الحضارات والأمم والمؤسسات بل الأفراد.
وعندما نقول إنهم فقهوا السنن الإلهية، فإننا نقصد أنهم عرفوا القوانين الربانية، والقواعد الإلهية الثابتة، وهي التي تؤدي إلى نتائج معينة، لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية معينة، انطبقت عليها هذه القوانين الإلهية فكان الجزاء أو النتيجة من جنس السبب أو العمل.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث هي: العموم، والثبات، والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
ونذكر أن السنن الإلهية هي :
أولاً : سنن إلهية كونية تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
والقسم الثاني هو الذي يهمنا º وهو ما يعرف بالفقه الحضاري.
وهو الفقه الذي يستمد مادته من قراءة التاريخ ، ومن التدبر في القصص القرآني .
فكل حدث تاريخي أو بشري فردي أم جماعي، إنما له أسباب أوجدته.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي، أو الجزاء.
وهذا العقاب أو الجزاء تحكمه قوانينº تُعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي كما يلي:
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد