بسم الله الرحمن الرحيم
{لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الـمُؤمِنِينَ إذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
لم تك تلك الكلمات القدسية العظيمة القدر، مجرد مفردات لذلك التبليغ العُلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسـوله الأمـين عـن جمـاعة المؤمنـينº عندما علم الحق -سبحانه - مقدار ذلك الصراع النفسي الذي انتصروا عليهº وذلك بطاعتهم لقيادتهم، وتمت بيعتهم تحت الشجرة، فرضي عنهم، وكافأهم معنوياً بهذا الرضا والسكينة، ومادياً بالفتح القريب.
ولم تك كذلك فقط، بل غدت دستوراً تربوياً، أكمله الحبيب - صلى الله عليه وسلم - عندما بشرهم بقوله: «أنتم اليوم خير أهل الأرض»(1).
وبقيت مَعلَماً خالداًº يعلِّم الأجيال المسلمة ـ خاصة المربين من الدعاة ـ في كل عصر وفي كل مِصر، أن اللمسات التربويةº وأهمها الدعم الإيجابيº جديرة بالتقدير العاجل والتشجيع الفوري لمن يقوم بعمل مميزº كما أن المحافظة على شعوره ونفسيته هو من صلب المنهج ومن أهم قواعد ولوازم العملية التربوية.
لحظة صدق...مع حديث الذكريات:
ولو جلس كل منا مع نفسهº ثم استرجع ماضيه، وفتح ملفات ذكرياته، وتذكر موقفاً تربوياً أثر فيه نفسياً، فشرح صدره، ولم ينسه لصاحبه!
ولو تأمل في شخصية صاحب هذا الموقفº لوجده شخصية متفائلة، مرحة، مفتوحة، محبوبة، خفيفة على النفس كالنسيم، مجاملة، سباقة للخير، مؤثِّرة في المحيطين بها، تعرف كيف تعبر عن مشاعرها الطيبةº فتجيد فن ترجمة المشاعر إلى سلوكيات!
ونتساءل: لِمَ لا نحاول تقليد هذه الشخصية القدوةº ولو في هذا الجانب الاجتماعي؟
ولو تأمل كل منا هذا الموقف التربوي، وتفرس في سببه، لوجده نتج عن سلوك معين لو صنفه أو وصفه بدقةº لوجده مفتاحاً للقلوب المغلقة، أو لمسة تربوية لفن التعامل مع الناس.
ونتساءل مجدداً: لِمَ لا نحاول تقليد هذا السلوك؟
كيف تؤثر نفسياً في الآخرين؟
في عدد من الدورات الخاصة بمجال التنمية البشرية، وتطوير الذاتº كانت لي تجربة طيبةº حيث وزعت استبياناً، في حلقة نقاشيةº عبارة عن سؤال سري للحضور، يدور حول الوقفة نفسها مع حديث الذكريات:
(تذكَّر موقفاً تربوياً أثَّر فيك تأثيراً نفسياً طيباً، فشرح صدرك ولم تنسه لصاحبه.
واذكر أعظم سبب لهذا الأثر النفسي الطيب!).
وكانت النتيجة هذه الباقة الطيبة من السلوكيات الإنسانية الراقية الطيبة، والتي اجتهدتُ في تنسيقها لتكوين منظومة فريدة من:
1 ـ الطرق أو الآليات التي تجعلنا نجيد فن التعامل النفسي مع الناس.
2 ـ أو اللمسات التربوية التي نحافظ بها على نفسيات الآخرين.
3 ـ أو مفاتيح قلوب الناس.
4 ـ أو وسائل امتلاك القبول الجماهيري عند الناس، أو ما يسمونه (الكاريزما Charisma).
اللمسة التربوية الأولى: امتلك فن الانطباع الأول!
لـقد كان الحـبيب - صلى الله عليه وسلم -º يتـعامل برقـي تربوي مع أتباعه ـ رضوان الله عليهم ـ فيفهم نفسية كل فردº ويتعامل بناءً على هـذا الفهم النفـسيº خاصـة عـند اللقـاء الأول، وهو ما يسمونه بمهارة أو فن الانطباع الأول، مع الآخر، وهي مرحلة قَدح شرارة الحب بين الناس.
لذا كان كل من يقابله - صلى الله عليه وسلم -، يتأثر به جداً عند أول لقاء، بل بأول نظرة منه - صلى الله عليه وسلم -.
الشاعر؟
تدبر هذه اللفتة التقديرية النفسية التي حفظتها ذاكرة كَعبِ بنِ مَالِكٍ, -رضي الله عنه -لمتعة أول لقاء، وتأمل روايته: «فَدَخَلنَا المَسجِدَ فَإِذَا العَـبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ جَالِسٌ فَسَلَّمنَا، ثُمَّ جَلَسنَا إلَيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلعَبَّاسِ: هَل تَعرِفُ هَذَينِ الرَّجُلَينِ يَا أَبَا الفَضلِ؟ قَالَ: نَعَم! هَـذَا البَـرَاءُ بنُ مَعرُورٍ, سَيِّدُ قَومِهِ، وَهَذَا كَعبُ بنُ مَالِكٍ,. قَـالَ: فَـوَاللَّهِِ مَا أَنـسَى قَـولَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: الشَّاعِرُ؟! قَالَ: نَعَم! »(2).
أكرموا المهاجر!
وتأمل موقفه - صلى الله عليه وسلم -º عندما علم بمقدم عكرمة بن أبي جهل مُسلِماًº فأوصى أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أن يراعوا مشاعر أخيهم:
«سـيأتـيكم عـكرمة بـن أبي جـهـل مـؤمـنـاً مهاجراً، فـلا تســبوا أبـاهº فـإن السـب يـؤذي الحـي، ولا يصـل إلى الميت».
كيف نجيد فن الانطباع الأول؟
أكدت الدراسات النفسية والإدارية أن الانطباع الأول يتكون خلال (30) ثانيةº حتى قبل أن تنطق كلمة (مرحباً).
يقول أستاذ علم النفس المساعد (فرانك بيرنيري) بجامعة (أوريجان): إن الانطباعات الأولى عملية عاطفية غير واعية، لا يحكمها الوعي، تحدث في ثوان وتتعلق بالذاكرة، ومن الصعب تغييرها.
وهناك دراسة قام بها عالم النفس التجريبي (ناليني أمبادي) بجامعة (هارفارد)º حول الانطباعات الأولى للطلبة حول أساتذتهم، فوجد أنه لا خلاف بين من رآهم في فيلم فيـديو لعـشر ثـوان، ومن حضر محاضراتهم على مدى (5) شهور.
فكيف تجيد فن الانطباع الأول؟
(1) اهتم بالآخر، وتفاهم معه.
(2) استخدم لغة الجسد، مثل: الاتصال بالعين، والابتسامةº في إظهار اهتمامك الواضح بالطرف الآخر.
(3) استمع له جيداً.
(4) اجعل معه ارتباطاً شخصياً بقليل من المعلومات حول شخصيتك.
(5) ركز جيداً في أي المواضيع التي يمكنك التحدث فيها في أول لقاء.
(6) أشعره بإيجابية تجاه نفسك وحياتك والعالم الذي تعيش فيه.
(7) ابعث في اللقاء روح الود بالحرارة والترحاب.
(8) كن طبيعياً ولا تتكلف.
(9) أعد ذكر اسم الآخر وأنت تتحدث معه (3).
(10) أشبع احتياجاته النفسية.
(11) امتلك فن نشر البسمات.
(12) أتقن فن التعبير عن المشاعر.
اللمسة التربوية الثانية: ابتسم له؟
فالابتسامة هبة عظيمة القدر، عميقة التأثير، سريعة المفعول، هينة الجهد، قليلة التكاليف.
وهي البوابة الجميلة لشخصيتنا.
أو اللافتة الطيبة التي تبين طبيعة نفسيتنا.
بل هي العنوان الذي من خلاله يقرأ الآخرون ما بداخلنا.
وهي أيضاَ الذراعان اللتان تفتح بهما شخصيتنا قلبها للآخرين.
وهي رسالتنا المشرقة للناس، فتدعوهم بود دون حاجة لتنطلق ألسنتنا:
(اقتربوا ولا تترددوا!).
وهي من أعظم مفاتيح القلوب.
فَلِمَ نتجاهلها؟
ولِمَ ندع الآخرين يحتارون في قراءة مفاتيح شخصـياتنا، ويـترددون في شكٍ, وتوجس: أيقتربون منا، أم يبتعدون عنا؟
ولِمَ لا نمتلك فن نشر البسمات؟
اختبار الابتسامة والمبتسمين:
السؤال الذي نسأله لكل من حضر الدورة: هب أنك دخلت يوماً على أي تجمع، وفي أي مؤسسة، ثم وجدت الجميع منهمكين على مكاتبهم، أو في أشغالهمº فمنهم المتجهم، ومنهم المبتسم.
ثم احتجت للاستعلام أو السؤال عن شيءٍ, خاص ومعين.
تُرى إلى مَن ستتجه أولاً بحاجتك: هل ستتجه إلى المتجهمين، أم إلى المبتسمين؟
ما هي الآثار الطيبة لابتسامتك؟
ولابتسامتك الكثير من الآثار الإنسانية النفسية الرائعةº منها:
1 ـ المعروف المُحَقَّر:
هو المعروف الذي نستهين به وبآثاره علينا وعلى الناس جميعاً.
«لَا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا وَلَو أَن تَلقَى أَخَاكَ بِوَجهٍ, طَلقٍ,»(4).
فلنطلِق وجوهناº لتنطلق بها قلوب الآخرين.
2 ـ الصدقة اليسيرة.
وهي من أجمل وأيسر أبواب الخير والصدقات.
«تَبَسٌّمُكَ في وجهِ أخيكَ صَدقةٌ»(5).
3 ـ الباب الجميل للمغفرة:
«إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم»(6).
قال الإمام علي -رضي الله عنه - : «إذا اجتمع المسلمان فتذاكرا غفر الله لأبشِّهما وجهاً».
4 ـ من أعظم مفاتيح الرزق:
تذكر هذه الحكمة الصينية: (إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتح متجراً).
فهي إذن أول خطوة على طريق النجاح في الحياة.
5 ـ من أجمل مفاتيح الجنة:
وذلك عندما تعاهد نفسكº على إتقان فنون إدخال السرور على القلوب والبيوت:
«مـن لقيَ أخـاهُ المسـلمَ بما يُحِـبٌّ اللهُ لِيَسُرَّهُ بذلك، سرَّهُ اللهُ -عز وجل -يومَ القيامةِ»(7).
«سددوا ـ والسداد الصواب من القول ـ وقاربوا وأبشروا ـ سُرٌّوا وافرحوا وأدخلوا الفرح والسرور على بعضكم ـ فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنةَ عملُهُ».
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني ـ يسترني ـ الله بمغفرة ورحمة»(8).
6 ـ أول من يحتاجها هو من لا يمنحها:
وتأمل هذه العبـارات الأدبية العالمية الرائعةº وهي قطعة من الفلسفة الشعبية عن الابتسامةº كان لها أكبر الأثر، والتي نشرها (فرانك إيرفنج فلتشر) خلال دعايته عن منتجات شركته.
(الابتسامة:
إنها لا تكلف شيئاً، ولكنها تعود بالخير الكثير.
إنها تُغـني أولـئك الذيـن يأخـذون، ولا تُفـقر أولئك الذين يمنحون.
إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر، لكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر.
لن تجد أحداً من الغنى بحيث يستغني عنها، ولا من الفقر في شيءº وهو يملك ناصيتها.
إنها تشيع السعادة في البيت، وطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء.
إنها راحة للمُتعَب، وشعاع الأمل للبائس، وأجمل العزاء للمحزون، وأفضل ما في جعبة الطبيعة من حلول للمشكلات.
وبرغم ذلك فهي لا تُشترى، ولا تُستجدى، ولا تُقترض، ولا تُسلب.
إنها شيءٌ مّا يكاد يُؤتي ثمرته المباركة حتى يتطاير شعاعاً.
فإذا أتاك رجالنا ليبيعوك ما يُحتاج إليه، وألفيتهم من التعب والإرهاق بحيث عز عليهم الابتسامº فكن أخاً أكرمَ وامنحهم ابتسامة من لدنك.
فواللهِ إن أحوج الناس إلى الابتسامة هو الذي لم يبق له شيء من الابتسام ليهبه)(9).
كيف تجيد فن الابتسام؟
ولتكون بدايتك عند كل صباح:
1 ـ عهد الصباح الجميل والاختياري: (لا لن أكون بخيلاً بعد اليومº... بل سأكون كريماً في نشر البسمات،...
وسأمتلك الوجه الطلق المشرق).
2 ـ أسئلة الصباح اللذيذة:
وليكن سؤالك في بداية يومك:
(1) من هو الذي سأجعله مبتسماً هذا اليوم؟
(2) أي بيـت مـن بـيوت المسلمين سـأُدخـل عليه السرور اليوم؟
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
----------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، استشاري تربوي على موقع (إسلام أون لاين).
(1) رواه البخاري.
(2) مسند الإمام أحمد ـ مسند المكيين (15237).
(3) المختار الإداري (Business Digest)، العدد (28) ـ أبريل 2004 ـ بتصرف.
(4) رواه مسلم ـ كتاب البر والصلة والآداب (4760).
(5) رواه الترمذي.
(6) المعجم الكبير، جزء 3، صفحة 83، رقم (2731).
(7) رواه الطبراني في الصغير وإسناده حسن.
(8) صحيح البخاري، جزء 5، صفحة 2373، رقم (6102).
(9) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟: ديل كارنيجي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد