زِنة التحشية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لا يزال اللاحقُ مِن ذوي المعارفِ يَستدرِكُ على السابق، فيُتَمِّم كلامَه، أو يُقيّده، أو يُخصِّصه، أو يُبِيّنُه، إلى غير ذلك، فكانَ أن وُضِعَ الاصطلاحُ في الاستدراكِ و التَّتَبٌّعِ على هيئة بناءٍ, هرَميº رأسه (المتن)، يليه (الشرح)، تعقبُه (الحاشية)، و يُختَم بـ: (التقرير)، و قد يكون ثَمَّ تجاوُزٌ فيهِ، إذ لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ.

 

و (التحشيةُ) ثالثةٌ في الترتيبِ، و هي مكمَنٌ لدقيق التحقيق، و مخزَنٌ لفهمِ الوهم، فلا يكادُ يجرؤُ عليها إلاّ النَّبَغَةُ ممن نال التمكينَ في العلوم و المعارف، فشحَّ الزمان بِهم فلم يَجُد إلاّ بقِلَّةٍ,، و الكرام قليلُ، و اليومَ طرَقَ بابها من غيرِ بابها مَن جمعَ بين حرفين، و ضبط حركتين، و لمَّ مُتضادَّين، و كثيرٌ ما هُم.

و الأصلُ فيها كينونتها في ذات الفَنِّ المطروقة فيه، و بتحقيقِ و تكميلِ ما لا بُدَّ منه، و ما خرجَ فلا يُحمدُ عند أهل المعارفِ.

 

نُوِّعَت (التحشيةُ) إلى أنواعٍ,:

أوّلها: تأصيليُّ، و هو ما كان مِن موضوعِ الكتابِ أو الفنِّ أصالةً، تكميلاً لنقصٍ,، و استدراكاً لِفَوتٍ,، مما به يكتملُ التحقيقُ للمطروقِ فيه، مِن ذلك حواشي القُدامى، و عليها عَقدُ الحَمدِ و الثناءِ عند أهل المعرفةِ، لجودتها و قيمتها، و ما فيها من منثورِ النٌّكَتِ.

 

ثانيها: تَكميليٌ، يُقَيِّدُ المُحَشِّي فيها ما يقتنصه من لطيف المُنتخباتِ المعرفية، و دقيق الأبحاثِ العلمية، مما يُستَلطَفُ ذكرها، من باب: الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ.

 

ثالثها: حَشَويٌ، تنتظمُ تحتَ قالةِ: \"مَن قرأ الحواشي ما حَوَى شَي\"، و أصِفُ هذا النوعَ بـ \"الحواشي لواشي\" و اللَّشٌّ: الطَّردُ كما في \"القاموس\"، و هذه ظاهرةُ الجيلِ الكُتُبِي في عالمِ التحقيقِ لا التأليف، فقد غَدَت (التحشيةُ) صناعةً لا فنّاً تأليفيّاً، ستُقامُ لها أصولٌ هزيلةٌ و قواعدُ مُهتَرِئَةٌ، ليسهُلَ الولوجُ لكلِّ لَجوجٍ,، و تفنَّنَ أهلُ النوعِ الحَشَوي في (التحشيةِ) فكانت الفنونُ الحشويّة:

أولاً: فَنٌّ الفُروق النٌّسَخِيَّةº إذ يَعمَدُ كثيرٌ إلى تقييدِ ما يقفُ عليهِ مِن فُرُوقٍ, بين النٌّسَخِ للكتابِ الواحد، فيقيمُ سطراً لحرفٍ,، جادةَ المستشرقين في النسخِ و الإظهار، يكتبُ: في نُسخةٍ, (وَ) بدلَ (فـ)، و في نسخةٍ,: - صلى الله عليه وسلم -، و في أخرى: - عليه السلام -. و غالبُ الفروق لا تلوي على شيءٍ,، و هذه صنعةُ مَن لا يُدرك إلاّ رَسم الحرفِ فيُحسن الوَقفَ، وَ عجبٌ أنَّ مُتَّخِذَ هذا الفنِّ محمودٌ، و موصوفٌ بالدِّقَةِ، و كم دِقَّةٍ, أورثَت دَقَّةً، و أهل النوعين السابقين يلحقهما ذمٌ جَمُّ.

ثانياً: فَنٌّ السَّرد المَرجعي، عِند العَزوِ لما في المتنِ في الحاشيةِ يَروقُ لبعضٍ, أن يأتي بجرِّ عَزوِ المَرجِعِ، فيسرُدَ: الاسمَ، و المؤلفَ، و لقبَه، و مولدَه و وفاتَه، و المحقِّقَ، و الجزءَ، و الصفحةَ، و الناشرَ، و تاريخَ النشرِ، و رقمَ الطبعةِ، و بلدَ الناشرِ. يهونُ الأمرُ إن كان المرجعُ واحداً، لكن إن كان أكثرَ من مرجعٍ,، و ليتَ الاقتصارَ على جرِّ العزوِ أولَ الأمرِ فحسب، بل عند كلِّ ذكرٍ, للمرجعِ، على أن الاقتصارَ على: الاسم، و الجزءِ، و الصفحةِ، كافٍ,، و لكنَّها آفةٌ أكاديميةٌ، الصبرُ عليها ضرورةٌ على ضررٍ,.

هذا الفنٌّ مُملُّ لما فيهِ مِن طولٍ, مَهولٍ,، و ضخامةٍ, مُسئمةٍ,.

 

ثالثاً: الفنٌّ التسويقي، يَتخذُ البعضُ (التحشيةَ) محلاً تطبيقياً لفنِّ التسويقِ، فيُنَزِّلُ نظرياتِها ليُحسِن الفنَّ، يذكرُ كثيرٌ كثيراً مِن: لنا، كتبنا، حققنا، لن تجده في غير كتابنا.

و من التسويقِ تهميشُ الغيرِ بأدبٍ, في التسويق فيُسطِّرُ: لديه أخطاءٌ كُثُرٌ، صحَّفَ و حرَّفَ، له وهمٌ و خلطٌ، ليس من أهل الفنِّ....

انتقلتُ مِن فنِّ (التحشيةِ) الأصيلةِ إلى صناعةِ (التحشية) الدخيلةِ دون إشارةٍ,، أدعى لِلَفتِ القلبِ، و صرفِ النظرِ، و بين الفنِّ و الصناعةِ فرقٌ يلمعُ كبرقٍ,.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply