التفكر في الآخرة ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

·قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وهو يسألك عن جناح بعوضة.

 

·وعنه قال: لست أبكي على نفسي إن ماتت، إنما أبكي على حاجتي إن فاتت.

 

·وعن وصيف الخادم، قال: سمعت المعتضد يقول عند موته:

 

تَمَتَع من الدنيا فإنك لا تبقى *** وخُذ صَفوَها ما إن صفت ودَعِ الرنقا

 

ولا تأمَنَن الدهرَ إني أمِنتُه *** فلم يُبق لي حالاً ولم يَرع لي حقا

 

قتلتُ صناديدَ الرجال فلم أَدَع *** عدواً، ولم أُمهل على ظِنةٍ, خلقا

 

وأخليتُ دورَ الملك من كل بازلٍ, *** وشتتهم غرباً ومزقتهم شرقا

 

فلما بلغتُ النجم عِزا ورفعة *** ودانت رقابُ الخلق أجمع لي رِقا

 

رماني الردى سهماً فأخمد جَمرتي *** فها أنا ذا في حُفرتي عاجلاً مُلقى

 

فأفسدتُ دنياي وديني سَفَاهةً *** فنم ذا الذي منى بمصرعه أشقى

 

فيا ليتَ شعري بعد موتي ما أرى ***إلى رحمةِ الله أم نارَه ألقى؟

 

·ولعبد الله بن المعتز يرثيه:

 

يا ساكنَ القبر في غبراءَ مُظلمةٍ, *** بالظاهريةِ مُقصى الدار منفرداً

 

أينَ الجيوش التي قد كنتَ تَسحَبُها؟ *** أين الكنوزُ التي أحصيتَها عددا؟

 

أين السريرُ الذي قد كنت تملؤُه *** مهابةً مَن رأته عينُه ارتعدا؟

 

أين الأعادي الأولى ذَللت مَصعَبَهم؟ *** أين الليوثُ التي صيرتَها بُعَداً؟

 

أين الجيادُ التي حجلتَها بدم؟ *** وكُن يحمِلن منك الضبغَم الأسَدا

 

أين الرمالُ التي غذيتَها مُهَجا؟ *** مُذ مِت ما وَرَدَت قَلبها ولا كَبِدا

 

أين الجِنانُ التي تجري جداوِلُها *** وتستجيبُ إليها الطائرَ الغَردا؟

 

أين الوصائفُ كالغِزلان رائحة *** يَسحَبن من حُلًلٍ, مَوشِيةِ جُداً

 

أين الملاهي؟ وأين الراحُ تسَبُها *** ياقوتةً كُسِيَت من فِضةٍ, زَرَدَا؟

 

أين الوُثُوب إلى الأعداد مُبتغياً *** صلاحَ مُلكِ بني العباس إذ فَسَدا؟

 

ما زِلت تَقسِر منهم كل قَسوَرةٍ, *** وتَخُبِطُ العالي الجبارَ مُعتَمدا

 

ثم انقَضَيتَ فلا عينٌ ولا أثرٌ *** حتى كأنك يوماً لم تَكُن أحدا

 

·إن أبا بكر بن أبي الدنيا دخل على يوسف القاضي، فسأله عن قُوته، فقال القاضي: أجدني كما قال سيبويه:

 

لا يَنفَع الهِليُونُ والأطريفلُ

 

انخرقَ الأعلى وخارَ الأسفلُ

 

ونحنُ في جِد وأنت تَهزلُ

 

·فقال: ابن الدنيا:

 

أراني في انتقاصٍ, كل يوم *** ولا يبقى مع النقصان شيء

 

طوى العصران ما نشراه مني *** فأخلق جدتي نشرٌ وطي

 

·وقيل: أنشأ ابن مقلة الوزير داراً عظيمة فقيل:

 

قل لابن مقلةَ مَهلاً لا تكن عَجِلا *** واصبر فإنك في أضغاثِ أحلامِ

 

تبني بأنقاضِ دورِ الناس مُجتهداً *** داراً سَتُهدم أيضاً بعد أيامِ

 

ما زلت تختارُ سَعدَ المشتري لها *** فلم تُقَ به من نَحسِ بَهرامِ

 

إن القرآنَ وبطليموسَ ما اجتمعنا *** في حالِ نقضٍ, ولا في حال إبرامِ

 

·أُحرقت بعد ستة أشهر، وبقيت عبرة.

 

·قال إبراهيم بن فاتك: سمعت أبا يعقوب، يقول: الدنيا بحر، والآخرة ساحل ، والمركب التقوى، والناس سفر.

 

·ومن قول ابن علي الثقفي: يا مَن باع كل شيء بلا شيء واشترى لا شيء بكل شيء.

 

·وقال: أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسراتها إذا أدبرت. العاقل لا يركن إلى شيء إن أقبل كان شغلاً، وإن أدبر كان حسرةً.

 

·قال الحاكم: سمعت الأصم، وقد خرج ونحن في مسجده، وقد امتلأت السكة من الناس في ربيع الأول سنة أربع وأربعين وثلاث مئة. وكان يملي عشية كل يوم اثنين من أصوله. فلما نظر إلى كثرة الناس والغرباء وقد قاموا يطرقون له، ويحملونه على عواتقهم من باب داره (إلى مسجده)، فجلس على جدار المسجد، وبكى طويلاً، ثم نظر إلى المستملي، فقال: أكتب: سمعت محمد بن إسحاق الصفاني يقول: سمعت الأشج، سمعت عبد الله بن إدريس يقول: أتيت يوماً باب الأعمش بعد موته فدققت (الباب)، فأجابني جارية عرفتني: هاي هاي (تبكي): يا عبد الله، ما فعل جماهير العرب التي كانت تأتي هذا الباب؟ ثم بكى الكثير، ثم قال: كأني بهذه السكة لا يدخلها أحد منكم، فإني لا أسمع وقد ضعف البصر، وحان الرحيل، وانقضى الأجل، فما كان إلا بعد شهر أو أقل منه حتى كف بصره وانقطعت الرحلة، وانصرف الغرباء، فرجع أمره إلى أنه كان يناول قلماً، فيعلم أنهم يطلبون الرواية، فيقول: حدثنا الربيع، وكان يحفظ أربعة عشر حديثاً، وسبع حكايات، فيرويها، وصار بأسوأ حال حتى توفي.

 

·جاور أبو يزيد المروزي بمكة سبعة أعوام، وكان فقيراً يقاسي البرد ويتكتم ويقنع باليسير. أقبلت عليه الدنيا في آخر أيامه، فسقطت أسنانه، فكان لا يتمكن من المضغ، فقال: لا بارك الله في نعمة أقبلت حيث لا ناب ولا نصاب، وعمل في ذلك أبياتاً.

 

·قال الُسٌلميُ: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: (ليكن) تدبرك في الخلق تدبر عبرة، وتدبرك في نفسك تدبر موعظة، وتدبرك في القرآن تدبر حقيقة. قال الله - تعالى -: {أفلا يَتَدَبَرُونَ القُرءانَ}. جرأك به على تلاوته، ولولا ذلك لكلت الألسن على تلاوته.

 

·أنشدني الوليد بن بكر النحوي لنفسه:

 

لأي بلائِك لا تدكر *** وماذا يَضُرٌك لو تَعتبر

 

بكاءٌ هنا وبُرَاحٌ هناك *** ومَيتٌ يُساق وقبرُ حُفِر

 

وبيانَ الشبابُ وحل المشيبُ *** وحانَ الرحيلُ فما تنتظر

 

كأنك أعمى عُدِمتَ البصرُ *** كأن جَنابكَ جِلد حَجَر

 

وماذا تُعاينُ نم آيةٍ, *** لو أن بقلبك صح النظر

 

·قال ابن أبي زمنين:

 

لا تَطمَئٍ,ن إلى الدنيا وزُخرفِها *** وإن تَوَشحت من أثوابها الحسنا

 

أين الأحبةٌ والجيرانُ ما فعلوا *** أين الذين هم كانوا لنا سَكَنا

 

سقاهم الدهرُ كأساً غيرَ صافيةٍ, *** فصيرتُهم لأطباقِ الثرى رَهَنا

 

·قال ابن الجوزي:

 

·عقارب المنايا تلسع، وجُدران جسم الآمال يمنع، وماء الحياة في إناء العمر يرشح.

 

·ومن شعر الإسلام أبي عمر محمد بن أحمد المقدسي:

 

ألم تَكُ منهاةً عن الزهوِ أنني *** بدا لي شيبُ الرأسِ والضعفِ والألمُ

 

ألم بي الخطبُ الذي لو بكيتُه *** حياتي حتى ينفذ الدمعُ لَم أُلَمُ

 

·أنشدني ابن الدهان:

 

أيها المغرورُ بالدنيا انتبه *** إنها حالٌ ستفنى وتحول

 

واجتهد في نَيلِ مُلكٍ, دائمٍ, *** أيٌ خيرٍ, في نعيم سيزول

 

لو عقلنا ما ضحكنا لحظةً *** غيرَ أنا فُقِدَت منا العقولُ

 

·قال أسعد بن يحيى السنجاري:

 

لله أيامي على رامةٍ, *** وطيبِ أوقاتي على حاجرِ

 

تكاد لسرعةِ في مَرها *** أولُها يَعثَرُ بالآخرِ

 

·كان قاضي القضاة يوسف بن رافع يَتمثل:

 

مَن يتمن العمر فَليدرع *** صبراً على فَقدِ أحبابِهِ

 

ومَن يُعمر يَلقَ في نفسِه *** ما قد تمناه لأعدائهِ

 

·وفي سنة أربع وخمسين: كان ظهور الآية الكبرى وهي النار بظاهر المدينة النبوية، ودامت أياماً تأكل الحجارة، واستغاث أهل المدينة إلى الله وتابوا، وبكوا، ورأى أهل مكة ضوءها من مكة، وأضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه. وكسف فيها الشمس والقمر، وكان فيها الغرق العظيم ببغداد، وهلك خلق من أهلها، وتهدمت البيوت، وطفح الماء على السُور.

 

إذا تم أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تم

 

·ومن شعر ابن حزم:

 

هَلِ الدهرُ إلا ما عرفنا وأدركنا *** فَجائِعُه تَبقى ولذاته تفنى

 

إذا أمكنت فيه مَسَرة ساعة *** تَولت كَمَر الطرفِ واستهلت حزنا

 

إلى تبعاتِ في المعادِ وموقفٍ, *** نَوَدٌ لديه أننا لم نَكُن كنا

 

حنينٌ لما وَلى وشُغلٌ بما أتى *** وهم لما نَخشى فَعَيشُك لا يَهنا

 

حصلنا على هَم وإثمٍ, وحَسرةٍ, *** وفاتَ الذي كنا نَنَلذُ به عنا

 

كان الذي كنا نُسَرُ بكونه *** إذا حققته النفسُ لفظ بلا معنى

 

·ومن شعر علي بن الحسين الربعي:

 

إن كنتَ نِلتَ من الحياة وطيبِها *** من حُسنِ وجهِك عِفةً وشبابا

 

فاحذر لنفسك أن ترى متمنيا *** يوم القيامة أن تكون تُرابا

 

·ومن شعره أيضاً:

 

تَنَكَر لي دهري ولم يَدرِ أنني *** أعز وأحداثُ الزمان تهونُ

 

فباتَ يثرِيني الخَطبَ كيف اعتداؤُه *** وبِتُ أُريه الصبرَ كيف يكونُ

 

·وقال الحافظ ابن عساكر في (تاريخه): سمع ابن أبي كدية يوماً قائلاً ينشد قول أبي العلاء المعري:

 

ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةً *** وحُق لسكان البسيطة أن يَبكو

 

تُحطمُنا الأيامُ حتى كأننا *** زجاجٌ ولكن لا يُعادُ لنا سَبكُ

 

·فقال ابنُ أبي كُدية يجيبه:

 

كَذَبتَ وبيتِ الله حِلفَةُ صادقٍ, *** سيَسكبُها بعد النوى مَن له المُلكُ

 

وتَرجعُ أجساماً صحاحاً سليمة *** تَعَارَفُ في الفردوسِ ما عندنا شَكٌ

 

·اجتاز أبو بكر الشلبي على بقال ينادي على البقل: يا صائم من كل الألوان. فلم يزل يكررها ويبكي، ثم أنشأ يقول:

خليلي إن دام همُ النفوسِ *** على ما أراه سريعاً قَتَل

 

فيا ساقي القوم لا تَنسَني *** ويا ربة الخِدرِ غَني رَمَل

 

لقد كان شيءٌ يُسَمى السرورُ *** قديماً سمعنا به ما فعل

 

·ومن شعر الميداني قوله:

 

تَنفَس صُبحُ الشيبِ في لَيل عارضي *** فَقُلت عساه يكتفي بعَذاري

 

فلما فشا عاتبتُه فأجابني *** ألا هل يُرى صبحٌ بغير نهار

 

·ومن شعر الحلواني الشافعي:

 

حالي مع الدهرِ في تقلٌبهِ *** كطائرٍ, ضم رجلَه شَرَكُ

 

هِمته في فكاك مُهجَتِه *** يَرُوم تخليصَها فتشتبكُ

 

·من شعر الخليفة الراشد بالله العباسي

 

زمانٌ قد استت فِصالُ صروفِه *** وذلل آسادَ الكرامِ لذي القَرعى

 

أكولتُه تَشكو صروفَ زمانِه *** وليسَ لها مَأوى وليسَ لها مَرعى

 

فيا قلبُ لا تَأسَف عليه فربما *** تَرى القوم في أكنافِ أفنائه صَرعى

 

·ومن شعر ابن عساكر:

 

أيا نفسُ ويحَك جاءَ المشيب *** فماذا التصابي وماذا الغزل

 

تَوَلى شبابي كأن لم يكن *** وجاء مشيبي كأن لم يَزل

 

كأني بنفسي على غُرةٍ, *** وخَطبِ المنون بها قد نزل

 

فيا ليتَ شعري ممن أكونَ *** وما قَدَر الله لي في الأزَل

 

·قال ابن الجوزي: وكان الوزير ابن هبيرة مبالغاً في تحثيل التعظيم للدولة، قامعاً للمخالفين بأنواع الحيل، حسم أمور السلاطين السلجوقية، وقد كان آذاه شحنة في صباه، فلما وزر، استحضره وأكرمه، وكان يتحدث بنعم الله، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وقال: نزلت يوماً إلى دجلة وليس معي رغيف أعبر به. وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء، ويبذل لهم الأموال، فكانت السنة تدور وعليه ديون، وقال: ما وجبت علي زكاة قط. وان إذا استفاد شيئاً من العلم، قال: أفادنيه فلان. وقد أفدته معنى حديث، فكان يقول: أفادنيه ابن الجوزي، فكنت أستحيي، وجعل لي مجلساً في داره كل جمعة، ويأذن للعامة في الحضور، وكان بعض الفقراء يقرأ عنده كثيراً، فأعجبه، وقال لزوجته: أريد أن أزوجه بابنتي، فغضبت الأم. وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر، فحضر فقيه مالكي، فذكرت مسألة، فخالف فيها الجمع، وأصر، فقال الوزير: أحمار أنت! أما ترى الكل يخالفونك؟! فلما كان الغد، قال للجماعة: غنه جرى مني بالأمس في حق هذا الرجل ما لا يليق، فليقل، لي كما قلت له، فما أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء، واعتذر الفقيه، قال: أنا أولى بالاعتذار، وجعل يقول: القصاصَ القصاصَ، فلم يزل حتى قال يوسف الدمشقي: إذ أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمه. فقال الفقيه: نعمك علي كثيرة، فأي حم بقي لي؟ قال: لا بد. قال: علي دين مئة دينار، فأعطاه مئتي دينار، وقال: مائة لإبراء ذمته، ومائة فبرأ ذمتي.

 

·قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: وقد اضطر ورثة الوزير ابن هبيرة إلى بيع ثيابهم وأثاثهم، وبيعت كتب الوزير الموقوفة على مدرسته، حتى لقد بيع (البستان) لأبي الليث السمرقندي في الرقاق (بخط منسوب وكان مذهباً) بدانقين وحبة، وقيمته عشر دنانير، فقال واحد: ما أرخص هذا البستان! فقال جمال الدين بن الحسين: لثقل ما عليه من الخراج يشير إلى الوقفية فأُخذ وضُرب وحُبس.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply