بسم الله الرحمن الرحيم
إنها صافية اللون، لؤلؤية البريق، تتحدر على الوجنات، وتمتزج بشهيق العبرات، إنها قطرات الدموع، مبدؤها قلوب مشفقة، وعقول متدبرة، وألسن تالية، وشفاه مسبحة، ومن بعد عيون دامعة، إنه بكاء الخشية والخوف، بكاء الرجاء والشوق، بكاء التوبة والندم، بكاء الإدكار والاعتبار، بكاء تغسل به الدموعُ الذنوبَ، وتمحو به العبراتُ السيئاتِ، لله ذلك البكاء، ما أجلاه للقلوب، وما أزكاه للنفوس!
أين بكاء الخلوة من بكاء الجلوة؟ وأين بكاء العُبَّاد الخاشعين من بكاء العشاق المحبين؟ أين الثرى من الثريا؟ مع تلاوة كل آية دمعة، ومع كل دعوة دمعة، ومع كل سجدة دمعة، دموع غزيرة لكنها عزيزة.
إنه بكاء التلاوات، وبكاء الصلوات {إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً * وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعاً} [الإسراء: 107-109]، ومثل هذا البكاء بكاء قوة لا ضعف، وبكاء عز لا ذل، إنه نعمة من الله، وقربة إلى الله، وسمة لصفوة خلق الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ, وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبرَاهِيمَ وَإِسرائيلَ وَمِمَّن هَدَينَا وَاجتَبَينَا إِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُ الرَّحمَنِ خَرٌّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58].
إنه بكاء التعلّق بطاعة الله، والشوق إلى لقاء الله، والحب العارم لنصر دين الله {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لا أَجِدُ مَا أَحمِلُكُم عَلَيهِ تَوَلَّوا وَأَعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]، عجباً للقوم، ما السبب في أن عيونهم تفيض دمعاً؟ إنهم يبكون لأنهم حرموا فرصة الموت في سبيل الله، الله أكبر! \" بمثل هذا الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذا الروح عزت كلمته، فلننظر أين نحن من هؤلاء \" [الظلال3/1686].
إنه بكاء العظة والعبرة تلامس القلوب فتذرف العيون، صورة رسمتها رواية العرباض بن سارية - رضي الله عنه - حين قال: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب) ما أعظم الواعظ وما أرق السامعين!
إنه بكاء الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجلى عندما قال: (ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً) [رواه أحمد] وعن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [رواه أحمد] لله أنت يا رقيق القلب يا سريع الدمع يا عظيم الحب، يا أبا بكر الصديق!
إنه بكاء التذكر والتفكر في الموت والقبر، والبعث والنشر، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة فقال: عَلامَ اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فبدر بين أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا وقال: أي إخواني لمثل اليوم فأعدّوا) [رواه أحمد] أي موعظة بليغة حية مثل موعظتك يا رسول الله؟
إنه بكاء الندم على التقصير في دقيق الأمور قبل جليلها، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطيباً فكان فيما قال: (ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بالحق إذا علمه) قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا. [رواه الترمذي وابن ماجه] فليسمع وليقرأ العلماء والدعاة ليتعلموا السمت ويعرفوا التبعة.
اقتربوا أكثر فأكثر لتروا الدموع وتسمعوا البكاء، فهذا عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - يقول: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء) [رواه أبو داود والنسائي]، وهذا ابن مسعود يتلو على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من سورة النساء، حتى قوله {فَكَيفَ إِذَا جِئنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ, بِشَهِيدٍ, وَجِئنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}، قال: فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل) [متفق عليه].
فلنعش مع الأصحاب رضوان الله عليهم.. فهذا أبو أمامة - رضي الله عنه - يخبر فيقول: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ورققنا فبكى سعد فأكثر البكاء) [رواه أحمد]، وارقبوا صحب محمد وهم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: {أَفَمِن هَذَا الحَدِيثِ تَعجَبُونَ * وَتَضحَكُونَ وَلا تَبكُونَ} بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - بكاءهم بكى معهم فبكينا ببكائه) [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
واستمعوا معي إلى راوية الإسلام وعلم أصحاب الصفة أبو هريرة - رضي الله عنه - فقد بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: \" أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود إلى جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي \" [شرح السنة للبغوي 14/373]، الله أكبر يا أبا هريرة لقد أتعبت من بعدك، وما عسى أن يقول أمثالنا إن كان هذا قول مثلك؟!
ولنمض مع أجيال الإيمان في عصور التابعين ومن بعدهم، فإن لغة البكاء وحديث الدموع مأثورة عندهم ومعروفة بينهم، أما سمعتم عن محمد بن واسع - رحمه الله - وأنه كان يبكي حتى يرحمه الناس، وسئل عن بكائه فقال: \" يا أحبائي كيف لا يبكي من لا يدري ما أثبت في كتابه، ولا يدري ما يختم به كتابه \"، ولله در سفيان بن عيينة حين أتاه سائل فسأله شيئاً ولم يكن عنده ما يعطيه، فبكى - رحمه الله -، ولما سئل قال: \" أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه \"، بكاء على فوات الطاعة والخير، وبكاء آخر من الخشية روته فاطمة بنت عبد الملك عن زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: \" ما رأيت أحداً قط كان أشد فَرَقاً من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده ثم رفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه \" [شعب الإيمان للبيهقي 3/209]، وأبو سهل الصعلوكي يسمع الحمامة قرب الفجر فيعاتب نفسه قائلاً:
أنام على سهو وتبكي الحمائم *** وليس لها جرم ومني الجرائم
كذبتُ لعمر الله، لو كنت صادقاً *** لما سبقتني بالبكاء الحمائم
ولنطو صفحات التاريخ لننتقل إلى أبي البقاء الرندي وهو يبكي ضياع الأندلس، ويحزن لحال المسلمين ويقطع القلوب بشعره حين قال:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف *** كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية *** قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس *** ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة *** حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان
واليوم ما حال بلاد الإسلام، وما حال المسلمين؟ وأين بكاؤهم ودموعهم من لهوهم وضحكهم؟
معاشر المؤمنين يا دعاة الإسلام:
الحال يرثى له، فالقلوب - إلا ما رحم الله قاسية، والعيون جامدة، استمعوا إلى عبد الأعلى التميمي وهو يقول: \" من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله - تعالى - نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً * وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعاً} [التخويف من النار لابن رجب ص23]، واستمعوا إلى وصية ابن مسعود: \" ليسعك بيتك، وابك من ذكر خطيئتك، وكف لسانك \" [الزهد لابن المبارك، ص42].
أيها القوم، أيها الدعاة:
أين دموعكم والقرآن يتلى، وسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تروى، والموتى تترى، والمواعظ شتى، والتقصير يطغى؟
خذوا عن الربانيين أوصاف الخائفين في مثل مقالة السري السقطي: \" للخائف مقامات منها الحزن اللازم، والهم الغالب، والخشية المقلقة، وكثرة البكاء، والتضرع في الليل والنهار، والهرب من مواطن الراحة، ووجل القلب \" [الزهد لهناد ابن السري، ص267-268]، فتشوا عن هذه الصفات، وابحثوا عن تلك الخلال، وابكوا على تلك الحال، وما صار إليه المآل، فالقلوب لاهية، والألسن لاغية، والخشية ذاهبة، فراجعوا أنفسكم، وتفقدوا قلوبكم، واجتهدوا في البكاء فإن لم يكن فليكن التباكي \" فقد قال بعض السلف: ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا \" [زادالمعاد1/185]، \" وإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه \" [إحياء علوم الدين 1/277].
أيها الدعاة:
خذوا هذه الوصفة لعلها تقود إلى البكاء: \" طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء... ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه - أي القرآن الكريم - من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب \" [إحياء علوم الدين 1/277].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد