بسم الله الرحمن الرحيم
قال - سبحانه -: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44)
وردت هذه الآية في سياق تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيان ما كان من أمرهمº والغرض من الآية - والله أعلم - بيان حال اليهود، ومن كان على شاكلتهم، وسار على سَنَنِهم، على كمال خسارهم، ومبلغ سوء حالهم، الذي وصلوا إليهº إذ صاروا يقومون بالوعظ والتعليم، كما يقوم الصانع بصناعته، والتاجر بتجارته، والعامل بعمله، لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها، ليستحقوا بذلك ما يُعَوَّضون عليه من مراتب ورواتبº فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمراد بـ {الناس} في الآية، العامة من أمة اليهودº والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
و{البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرةº ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب.
ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبرº ولهذا ذم الله - تعالى -في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذاº إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) فكلُّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
و (النسيان) في قوله - جل وعلا -: {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركمº والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله - تعالى -: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وقوله أيضًا: {فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام: 44) وما أشبه ذلك من الآياتº ويكون خلاف الذكر والحفظ.
وقوله - سبحانه -: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقٌّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منـزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.
والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخرº فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوالº وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعةº وفي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفقِ ما جاء به القرآن وأمر بهº إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.
وأخيرًا: نختم قولنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله - تعالى -: {أتأمرون الناس بالبر} وقوله: {لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2) وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد