لذة التعبد عند السلف ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عمر بن عبد العزيز:

أمير المؤمنين كان أوحد أمَّته في الفضل، ونجيب عشيرته في العدل، جمع زهدًا وعفافًا وورعًا وكفافًا، شغله آجل العيش عن عاجله، كان - رحمه الله - للرعية أمنًا وأمانًا، كان عالِمًا عابدًا مفهمًا حكيمًا.

عن جويرية بن أسماء قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَفسِي هَذَه تَوّاقة، لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلمّا أُعطيت الخلافة التي لا شيء أفضل منها، تاقت إلى ما هو أفضل منها!! أي - الجنة أفضل من الخلافة.

 

وكان - رحمه الله - قد اجتهد بالعبادة حتى أصبح لا يُغالَب عليها.

قَالَ مَنصُور أبو أمية خادم عمر بن عبد العزيز: رأيت عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وله سَفط في كوة، مفتاحه في إزاره، فكان يتغفلني، فإذا نظر إلي قد نمتº فتح السَّفط فأخرج منه جبية شعر ورداء شعرº فصلى فيهما الليل كُلَّه، فإذا نودي بالصبح نزعهما.

وقالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: أنها دخلت عليه فإذا هو في مُصَلّاه يده على خده سائلة دموعه: فقالت: يا أمير المؤمنين أشيء حدث؟! قَالَ: يا فاطمة إني تقلَّدت أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضَّائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته! فرحمت نفسيº فبكيت.

وكان - رحمه الله - عفيف النَّفس، أجهد نفسه وضيَّق عليهاº حتى كان حاله كحال أي رجلٍ, من عامة المسلمين.

عن أبي عثمان الثقفي قَالَ: كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كُلَّ يومٍ,، فجاءه يومًا بدرهم ونصف، فقال: ما بدالك؟ فقال: نفقت السٌّوق، قَالَ: لا ولكنك أتعبت البغل، أرحه ثلاثة أيام.

صلَّى عمر بن عبد العزيز بالنَّاسِ الجمعةº ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إِنَّ الله قد أعطاكº فلو لبست، فقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.

وعن عمرو بن مهاجر قَالَ: اشتَهَى عمر تفاحًا، فقال: لو أن عندنا شيئا من تفاح، فإنه طيب، فقام رجل من أهله فأهدى إليه تفاحًا، فلمّا جاء به الرَّسول، قَالَ: ما أطيبه وأطيب ريحه وأحسنه، ارفع يا غلام واقرأ على فلان السَّلام، وقل له: إن هديتك قد وقعت عندنا بحيث تحب، قَالَ عمرو بن مهاجر: فقلت له يا أمير المؤمنين: ابن عمك رجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، قَالَ: إِنَّ الهدية كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، وهي لنا رِشوَة.

وكان - رحمه الله - متواضعًا لم تغيره الخلافة، بل زادته حسنًا، ودينًا، وتواضعًا.

فعن رجاء بن حيوة قَالَ: سمرت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فاعتل السِّراج، فذهبت أقوم أصلحهº فأمرني عمر بالجلوس ثم قام فأصلحه ثم عاد فجلس، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، ولؤمٌ بالرجل إن استخدم ضَيفَه.

ومن حلمه وسعة صدرة ملاطفته لشاعر يقول الرفث.

فقد أتى فتيان إلى عمر بن عبد العزيز وقالوا: إن أبانا توفي وترك مالا عند عمنا حميد الأمجي، فأحضره عمر فلمّا دخل قَالَ أنت القائل:

 

شَرِبتُ المُدَامَ فَلَم أُقلِع *** وَعُوتِبتُ فِيهَا فَلَم أَسمَع

حُمَيدُ الَّذِي أَمَجٌ دَارُهُ *** أَخُو الخَمرِ ذُو الشَّيبَةِ الأَصلَع

أَتَاهُ المَشِيبُ عَلَى شُربِهَا ***وَكَانَ كَرِيمًا فَلَم يَنزَع

 

قَالَ: نعم، قَالَ: ما أراني إلا سوف أَحدٌّك، إنك أقررت بشرب الخمر، وأنك لم تنزع عنها، قَالَ: إيهات! أين يُذهب بك؟ ألم تسمع الله يقول: {وَالشٌّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُم الغَاوُونَ (224) أَلَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ, يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ (226)} [سورة الشعراء: 224-226] فقال: أولى لك يا حميد! ما أراك إلا قد أفلت، ويحك يا حميد كان أبوك رجلًا صالحا، وأنت رجل سوء، قَالَ: أصلحك الله وأينا يشبه أباه، كان أبوك رجل سوء، وأنت رجل صالح، قَالَ: إن هؤلاء زعموا أن أباهم توفي وترك مالا عندك، قَالَ: صدقوا وأحضره بختم أبيهم، وقال: أنفقت عليهم من مالي، وهذا مالهم، قَالَ: ما أحد أحق أن يكون هذا عنده منك، فقال: أيعود إلي وقد خرج مني؟!.

وبكى عمر بن عبد العزيز يومًا، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدّار ولا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟! قَالَ: ذكرت يا فاطمة مُنصرف القوم من بين يدي الله - عز وجل -، فريق في الجنة وفريق في السعير، قَالَ: ثم صرخ وغشي عليه.

قالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: إنه قد يكون في النَّاس من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان إذا صلى العشاء قعد في مسجدهº ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم يتنبه فلا يزال يدعو رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع.

قَالَ الذَّهبي: قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق، كامل العقل حسن السَّمت جيد السِّياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم فقيه النفس ظاهر الذكاء والفهم، أواهًا منيبًا قانتًا لله حنيفًا زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلِّة المعين وكثرة الأمراء الظَّلمة الَّذين ملٌّوه، وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقوه السٌّم، فحصلت له الشَّهادة والسَّعادة، وعد عند أهل العلم من الخلفاء الرّاشدين، والعلماء العاملين.

 

أبو مسلم الخولاني:

سيد التابعين، وزاهد العصر، أسلم في أيامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودخل المدينة في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، كان عابدًا مجاهدًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر.

عن عطية بن قيس: أن أناسًا من أهل دمشق أتوا أبا مُسلم الخولاني في منزلهº وكان غازيًا بأرض الرٌّوم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه حفرة، ووضع في الحفرة نطعًا وأفرغ ماءً فهو يتصلق فيه وهو صائم، فقال له النفر ما يحملك على الصِّيام وأنت مسافر، وقد رَخَّص الله - تعالى -لك الفطر في السَّفر والغزو، فقال: لو حضر قتال أفطرتº وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بُدنى، إنما تجري وهي ضمرات، إن بين أيدينا أيامًا لها نعمل.

وكان - رحمه الله - يجتهد في العبادة، حتى كان يُكلف نفسه فوق ما تريد.

عن عثمان بن أبي العاتكة قَالَ: كان من أمر أبي مُسلِم الخولاني أن عَلَّق سوطًا في مسجده، ويقول: أنا أولى بالسَّوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطًا أو سوطين، وكان يقول: لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد.

وقد جاء رجلان إلى أبي مسلم فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد فوجداه يركع فانتظراه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاث مائة ركعة.

وعن سليمان بن يزيد العدوى قَالَ: قَالَ أبو مسلم: يا أم مسلم سوي رحلكº فإنه ليس على جهنم معبرة.

وقيل: ألقاه الأسود العنسي الكذاب في النار، فخرج منها ناجيا سالما - رحمه الله -.

عن شرحبيل الخولاني قَالَ: بينا الأسود العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم، فقال له: أتشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله؟ قَالَ: نعم

قَالَ: فتشهد أني رسول الله؟ قَالَ: ما أسمع!

قَالَ: فأمر بنار عظيمة فأُجِّجَت، وطرح فيها أبو مسلم، فلم تضره.

فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلدك أفسدها عليكº فأمره بالرَّحيل فقدم المدينة، وقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر، فعقل راحلته على باب المسجد، وقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي إليها، فبصره به عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، فأتاه فقال: من أين الرجل؟ قَالَ: مِن اليمن، قَالَ: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرَّقه بالنّار فلم تضره؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply