موعظة ( 1 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك:

إليك عنا فما تحظى بنجوانا

يا غادرا قد لها عنا وقد خانا

أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا

وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا

بأي وجه نراك اليوم تقصدنا

وطال ما كنت في الأيام تنسانا

يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع

الا لمجتهد بالجدّ قد دانا

 

يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدا وقياما.

 

 

 

 * إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا:

 

ولو أننا إذا متنا تركنا   ***  لكان الموت راحة كل حيّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا  ***  ونسأل بعدها عن كل شيء

 

*أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق.

 

يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك. لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيا موجودا، كأنك لا تعود نسيا مفقودا.

فاز، والله المخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار.

 

وأنشدوا:

عيل صبري وحق لي أن أنوحا  ***  لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا

أخلقت مهجتي أكف المعاصي  ***  ونعاني المشيب نعيا صريحا

كلما قلت قد بري جرح قلبي  ***  عاد قلبي من الذنوب جريحا

إنما الفوز والنعيم لعبد  ***  جاء في الحشر آمنا مستريحا

 

إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون.

 

يا من غدا في الغيّ والتيه  ***  وغرّه طول تماديه

أملى لك الله فبارزته  ***  ولم تخف غبّ معاصيه

 

يا إخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا...

 فبالله أخبروني: من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم؟ وما للجهالة قد سترت عنكم عيوبكم؟ أما ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة، وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامه بنواصيكم آخذة؟ فحتى م؟ وإلى م؟ وعلام التخلف والمقام؟ أتطمعون في بقاء الأبد؟ كلا والواحد والصمد.إن الموت لبالرّصد، ولا يُبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم.

 

 إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار، والله، عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام.

 

وأنشدوا:

دعوني على نفسي أنوح وأندب  ***  بدمع غزير واكف يتصبب

دعوني على نفسي أنوح لأنني  ***  أخاف على نفسي الضعيفة تعطب

فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا  ***  إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب

فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي  ***  إذا كنت في نار الجحيم أعذب

وقد ظهرت تلك القبائح كلها  ***  وقد قرّب الميزان والنار تلهب

ولكنني أرجو الإله لعله  ***  يحسن رجائي فيه لي يتوهب

ويدخلني دار الجنان بفضله  ***  فلا عمل أرجو به أتقرّب

سوى حب طه الهاشمي محمد  ***  وأصحابه والآل من قد ترهبوا

 

* إخواني: قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا، هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف العبر بألسنة الأفهام. يا من أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحما على الجرائم أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام؟ الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها كالغلام، فكل من قهر نفسه فهو الهمام. هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فانّا لله وإنا إليه راجعون - والسلام.

 

* يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، ابك على معصيتك فلعلك مطرود.

 يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من إرشادها نصحا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا.

 

وأنشدوا:

لما نقضى زمن التواصل والرضا  ***  قد صرت تطلب ردّ أمر قد مضى

هلا أتيت ووقت وصلك ممكن  ***  وبياض شيبك في العوارض ما أضا

 

يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب والأوزار.

 

وأنشدوا:

أتيتك راجيا يا ذا الجلال   ***  ففرّج ما ترى من سوء حالي

عصيتك سيّدي ويلي بجهلي  ***  وعيب الذنب لم يخطر ببالي

إلى من يشتكي المملوك إلا  ***  إلى مولاه يا مولى الموالي

فويلي لم أمي لم تلدني  ***  ولا أعصيك في ظلم الليالي

وها أنا ذا عبيدك عبد سوء  ***  ببابك واقف يا ذا الجلال

فان عاقبت يا ربي فإني  ***  محق بالعذاب وبالنكال

وان تعفو فعفوك أرتجيه  ***  ويحسن إن عفوت قبيح حالي

 

 إخواني، الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في العاقبة الآجلة. يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف وأى \" وهم\" سخيف. عينك مطلوقة، ولسانك يجني الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم من نظرة محتقرة زلت بها الأقدام.

 

عاتبت قلبي لما  ***  رأيت جسمي نحيلا

فلام قلبي طرفي  ***  وقال كنت الرسولا

فقال طرفي لقلبي  ***  بل كنت أنت الدليلا

فقلت كُفَّا جميعا  ***  تركتماني قتيلا

 

 إخواني، إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة؟ فبالله عليكم، تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد، وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالأجل وبين أيديكم يوم الحساب. آه من ثقل الحمل.. آه من قلة الزاد وبعد الطريق.

 

فيا أيها المغرور بإقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عن الصواب، وهو في فعله كذاب.

 

يا بطال! إلى كم تؤخر التوبة، وما أنت في التأخير بمعذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟ يا مسكين! قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور؟ أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركب النجب غدا أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور. فاز والله، المخفون، وخسر هنالك المبطلون، ألا إلى الله تصير الأمور.

 

وأنشدوا:

مالي أراك على الذنوب مواظبا  ***  أأخذت من سوء الحساب أمانا

لا تغفلن كأن يومك قد أتى  ***  ولعل عمرك قد دنا أو حانا

ومضى الحبيب لحفر قبره مسرعا  ***  وأتى الصديق فأنذر الجيرانا

وأتو بغسّال وجاؤوا نحوه  ***  وبدا بغسلك ميتا عريانا

فغسلت ثم كسيت ثوبا للبلى  ***  ودعوا لحمل شريرك الاخوانا

وأتاك أهلك للوداع فودّعوا  ***  وجرت عليك دموعهم غدرانا

فخف الإله فانه من خافه  ***  سكن الجنان مجاورا رضوانا

جنات عدن لا يبيد نعيمها  ***  أبدا يخالط روحه ريحانا

ولمن عصا نار يقال لها لظى  ***  تشوى الوجوه وتحرق الأبدانا

نبكي وحق لنا البكاء يا قومنا  ***  كي لا يؤاخذنا بما قد كانا

 

 *يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال. لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمم القوم رجال.

 

يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، إن لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو ولما أبعد عثرة الشيخ أن تقال. ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال.

 

يا هذا، إلى متى تسمع أخبارهم ولا تقفو آثارهم، اطلب رفقة التائبين عساك لطريقهم ترشد، اندب على بعادك يا مطرود، فمثلك من بكى وعدد، اعتذر يا مهجور، عساك بالذل تسعد، وقل بلسان التذلل والأسف والكمد:

 

كم ذا التلوّم لا إقلاع يصحبه  ***  ولا عزيمة هذا العجز والكسل

وكم أردّد أقوال ملفقة  ***  ما ينفع القول ان لم يصدق العمل

 

 واعجبا! كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع. واها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع. عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو إذ قيل: فلان سافر وليس في رجوعه مطمع.

 

 يا من رواحله في طلب الدنيا لها إسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي ونقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين.

 

 يا من عمي عن طريق القوم، عليك بإصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقت التائب كله عمل: نهاره صوم، وليله سهر، ووقت البطال كله غفلة، وبصيرته عميت عن النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، إن تدرك المتجهدين في أول الليل، ففي أعقاب السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجر المشيب انفجر، وأذلة التخلف إذا تخلف عن الباب وما حضر!.

 

 يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟ متى يكون منك المتاب؟ جسمك باللهو عامر، وقلبك من التقوى خراب، ضيّعت الشباب في الغفلة، وعند الكبر تبكي على زمان الشباي. في المجلس تبكي على الفائت، وإذا خرجت عدت للانتهاب. لا حيلة لوعظي فيك وقد غلق في وجهك الباب. كم لي أحدّث قلبك، وأرى قلبك غائبا مع الغيّاب، يا من قلبه مشغول، كيف تفهم الخطاب. وافرحة إبليس إذا طردت عن الباب! هذا مأتم الحزان، هذا المجلس قد طاب. رحلت رفاق التائبين إلى رفاق الأحباب. يا وحشة المهجور المبعد عن الباب إذا لم يجد للقرب والدنو سببا من الأسباب. يا منقطعا عن الرفاق الأحباب، تعلق بأعقاب الساقة بذلّ وانكسار ودمع ذي اسكاب، وقل: تائه في بريّة الحرمان، مقطوع فيه تيه الشقاء، مسبول دونه الحجاب، كلما رام القيام، أقعده وأبعده بذنوبه الحجّاب، لا زاد ولا راحلة ولا قوة، فأين الذهاب؟ عسى عطفة من وراء ستر الغيب تهون عليك صعاب المصاب.

 

لله درّ أقوام شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمئوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!.

 

وأنشدوا:

يا رجال الليل مهلا عرّسوا  ***  إنني بالنوم عنكم مشتغل

شغلتني عنكم النفس التي  ***  تقطع الليل بنوم وكسل

أنا بطّال وأنتم ركّع  ***  زاد تفريطي وزدتم في العمل

قلت مهلا سادتي أهل الوفا  ***  حمل القوم وقالوا لا مهل

 

 يا من أقعده الحرمان، هذه رفاق التائبين عليك عبور. لا رسالة دمع ولا نفس آسف، وما أراك إلا مهجور. هذا نذير الشيب ينذر بالرحلة تهيأ لها منذور. كم أعذار؟ كم كسل؟ كم غفلة؟ ما أجدك يوم الحساب معذور. بيت وصلك خراب، وبيت هجرك معمور. بدر عساك تجبر بالتوبة وتعود مجبور، سجدة واحدة واصل بها السحر وتنجو من الأهوال، {وَلِلّهِ يَسجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَظِلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد 15].

 

لله در أقوام قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، ان نطقوا فبذكره، وان تحرّكوا فبأمره، وان فرحوا فبقربه، وان ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة.

 

وأنشدوا:

حياتي منك في روح الوصال  ***  وصبري عنك من طلب المحال

وكيف الصبر عنك وأي صبر  ***  لعطشان عن الماء الزلال

إذا لعب الرجال بكل شيء  ***  رأيت الحبّ يلعب بالرجال

 

 معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان.

 

هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان.

يا تائها في تيه، التخلف، يا حائرا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. ان لم يشاهدك رفيق التوفيق، و إلا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب{يَمحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمٌّ الكِتَابِ} [الرعد 39].

 

وأنشدوا:

أتبني بناء الخالدين وإنما  ***  بقاؤك فيها لو عقلت قليل

لقد كان في ظل الأراك مقيل  ***  لمن كل يوم يقتفيه رحيل

 

 يا تائها في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا زاد ولا راحلة. ستندم اذ حان الرحيل، وأمسيت مريضا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاذ، تغدو عليك الحسرات وتروح إلى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد.

 

فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة

 

احذر دنياك وغرّتها  ***  واحذر أن تبد لها طلبا

تبغي ودّا ممن قدما  ***  لك قد قتلت أمّا وأبا

وعلى الجيران فقد جارت  ***  كلا قهرت أولت عطبا

كم من ملك ذي مملكة  ***  قد مال لها سكرا وصبا

أضحى في اللحد ومقعده  ***  بتراب اللحد قد احتجبا

اطلب مولاك ودع دنياك  ***  ففي أخراك ترى عجبا

كم من قصر قد شيد بنا  ***  بالموت وها أضحى خربا

يا طالبها لا تله بها  ***  كم من تاه ملك غضبا

أين الماضون قد سكنوا  ***  لحدا فردا خربا تربا

كانوا ومضوا ثم انقرضوا  ***  فتأدب أنت بهم أدبا

فالعمر مضى والشيب أتى  ***  والموت لجينك قد قربا

فأعدّ الزاد فما سفر  ***  عمر الأيام قد انتهبا

بادر بالتوب وكن فطنا  ***  لا تلق بجريتك النصبا

فلعل الله برحمته  ***  يلقي بالعفو لنا سببا

 

 يا من يذوب ولا يتوب، كم كتبت عليك الذنوب، ويحك خلّ الأمل الكذوب. واأسفا، أين أرباب القلوب، تفرّقت بالهوى في شعوب، ندعوك إلى صلاحك ولا تؤوب، واعجبا لك، ما الناس إلا ضروب.

 

يا دهر ما أقضاك من متلوّن  ***  في حالتيك وما أقلك منصفا

وغدوت للعبد الجهول مصافيا  ***  وعلى الكريم الحرّ سيفا مرهفا

دهر إذا أعطى استردّ عطاءه  ***  وإذا استقام بدا له فتحرّفا

لا أرتضيك وان كرمت لأنني  ***  أدري بأنك لا تدوم على الصفا

ما دام خيرك يا زمان بشرّه  ***  أولى بنا ما قل منك وما كفى

 

 يا غافلا عن نصيره، يا واقفا مع تقصيره، سبقك أهل العزائم، وأنت في بحر الغفلة عائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكّس رأس الذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار: مذنب وراحم، وتشبّه بالقوم وان لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، وقم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبه، ودع اللهو جانبا، وطلّق الدنيا ان كنت للآخرة طالبا، يا نائما طوال الليل سارت الرفقة، ورحل القوم كلهم، وما انتبهت من الرقدة.

 

 يا أخي، لا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وإياك والأنس بمن ترحل عنه، فتبقى كالحائر، رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، مهر الآخرة يسير، قلب مخلص، ولسان ذاكر، إذا شبت ولم تنتبه، فاعلم أنك سائر، فديت أهل التهجد بلسان باك وجفن ساهر، كم لهم على باب تتجافى جنوبهم من تلمق ودمع قاطر، إذا تنسّموا نسيم السحر أغناهم عن نسيم العذيب وحناجر، عصفت بهم رواشق الاستغفار البواكر، عمروا منازل الخدمة، ومنزل الغفلة خراب داثر.

 

 يا من صحيفته سوداء، اغسلها بالدموع، وتعرّض لمجال المتهجدين، وقل: ضال ضل عن الطريق مقطوع، وهذا مأتم الأحزان، إلى أي وقت تدّخر الدموع، هذا مجلس الشكوى، هذا وقت الرجوع.

 

فبادروا إخوتي، وافهموا أسرار المراد: {فَسَتَذكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُم وَأُفَوِّضُ أَمرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} [غافر 44].

 

وأنشدوا:

ما الذنب لي فيما مضى سالفا  ***  الذنب للدهر وسوء القضا

فامنن وجد بالصفح عن مذنب  ***  معترف بالذنب فيما مضى

قد ظل من خوفك في حيرة  ***  في قلبه منك لهيب الفضا

إن كان لي ذنب فلي حرمة  ***  توجب لي منك جميل الرضا

 

 يا أخي، أفنيت عمرك في اللعب، وغيرك فاز بالمقصود وأنت منه بعيد، غيرك على الجادة، وأنت من الشهوات في أوجال وتنكيد، ترى متى يقال: فلان استقال ورجع. يا له من وقت سعيد، متى تخرج من الهوى وترجع إلى مولاك العزيز الحميد، يا مسكين، لو عاينت قلق التائبين، وتململ الخائفين من هول الوعيد، جعلوا قرّة أعينهم في الصلاة، والزكاة، والتزهيد، وأهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة، والشيب في الحرص والأمل المديد، لا بالشباب انتفعت، ولا عند المشيب ارتجعت، يا ضيعة الشباب والمشيب: {وَلَو تَرَى إِذ فَزِعُوا فَلَا فَوتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ, قَرِيبٍ,} [سبأ51].

 

وأنشدوا:

عملت على القبائح في شبابي  ***  فلما شبت عدت إلى الرياء

فلا حين الشباب حفظت ديني  ***  ولا حين المشيب طببت دائي

فشاب عنده مصغر غويّ  ***  وشيخ عند مكبره مرائي

قضاء سابق في علم غيب  ***  فيا لله من سوء القضاء

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply