بسم الله الرحمن الرحيم
المجموعة الأولى:
1- وأما عزلة الأبدان ومفارقة الجماعة التي هي العوام فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحةº وذلك أن عظم الفائدة في اجتماع الناس في المدن، وتجاورهم في الأمصار إنما هو أن يتضافروا، فيتعاونوا على المصالح، ويتآزروا فيها، إذا كانت مصالحهم لا تكمل إلا به، ومعايشهم لا تزكو إلا عليه.
وللإنسان أن يتأمل حال نفسه، فينظر في أي طبقة يقع منهم، وفي أية جنبة ينحاز من جملتهمº فإن كانت أحواله تقتضيه المقام بين ظهراني العامةº لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له به عنها، ولا يجد بداً من الاستعانة بهم فيها، ولا وجه لمفارقتهم في الدار، ومباعدتهم في السكن والجوار - فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته، وأضر بمن وراءه من أهله وأسرته.
وإن كانت نفسه - بكلها - مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهمº فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم. ص15 – 16.
2- ولسنا نريد - رحمك الله - بهذه العزلة التي تختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهمº فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يحل دونها حائل شغل، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليهاº فإن من جرى في صحبة الناس، والاستكثار من معرفتهم، على ما يدعو إليه شغف النفوس وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه - كان جديراً ألا يحمد غِبَّه، وأن يستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجتهº فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر. ص16.
3- قال الشيخ أبو سليمان: وكان ابن عمر من أشد الصحابة حذراً من الوقوع في الفتن، وأكثرهم تحذيراً للناس من الدخول فيها، وبقي إلى أيام فتنة ابن الزبير، فلم يقاتل معه، ولم يدافع عنه، إلا أنه كان يشهد الصلاة معه، فإذا فاتته صلاها مع الحجاج، وكان يقول: إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم. ص26.
4- لا يستوحش مع الله من عمر قلبه بحبه، وأنس بذكره، وألف مناجاته بسره، وشغل به عن غيره، فهو مستأنس بالوحدة، مغتبط بالخلوة. ص28 – 29.
5- قال بعض الحكماء: إنما يستوحش الإنسان بالوحدةº لخلاء ذاته، وعدم الفضيلة من نفسهº فيكثر حينئذ بملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدةº ليستعين بها على الفكرة، ويتفرغ لاستخراج الحكمة. ص29.
6- أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرنا إسماعيل بن أسد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني عن الحسن- رحمه الله -أنه كان يقول: كلمات أحفظهن من التوراة: قنع ابن آدم فاستغنى، اعتزل الناس فسلم، ترك الشهوات فصار حراً، ترك الحسد فظهرت مروءته، صبر قليلاً فتمتع طويلاً. ص30.
7- أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني المطهر بن عبد الله قال: حدثني أبو الحسن محمد بن العباس النحوي قال: كتب إلي ابن لمجة يستزيرني، فكتبت إليه:
أنست نفسي بنفسي * فهي في الوحدة أنسي
وإذا آنست غيري * فأحق الناس نفسي
فسد الناس فأضحى * جنسهم من شر جنس
فلزمت البيت إلا * عند تَأدِيتِي لخمسي
ص32 - 33
8- أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني محمد بن أحمد بن سليمان قال: حدثنا ابن شبيب قال: حدثنا إبراهيم بن محمد النحوي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: سألني الرشيد عن أعراب البادية، وعن أخبارها، فحدثته: أني كنت في مكان يقال له الطخفة، وهي قرية لبني كلاب، رأيت فيها أعرابياً في عنقه طوقٌ ملتوٍ, من فضة، وبيده زكرة(1) ومعه قدح نبع(2) فتتبعت أثره فجاء إلى جذم حائط(3) فجمع رميلة ثم اتكأ عليها، وجعل يصب من شكوته نباذة له في قدح النبع ويشربه، ويرجز عليه، فسلمت عليه ووقفت عنده فقال: إن فيه(4) خلالاً ثلاثاً إن سمع مني حديثاً لم ينمه علي، وإن تفلت في وجهه احتمل، وإن عربدت عليه لم يغضب، قال الأصمعي: فقال الرشيد: زهدتني في الندماء. ص33.
9- قال أبو سليمان: أما ما شجر بين الصحابة من الأمور، وحدث في زمانهم من اختلاف الآراء - فإنه من باب كلما قل التسرع فيه، والبحث عنه كان أولى بنا وأسلم لنا، ومما يجب علينا أن تعتقد في أمرهم أنهم كانوا أئمة علماء قد اجتهدوا في طلب الحق، وتحروا وجهته، وتوخوا قصدهº فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور، وقد تعلق كل منهم بحجة، وفزع إلى عذر، والمقايسة عليهم، والمباحثة عنهم اقتحام فيما لا يعنينا، والله - تعالى - يغفر لنا ولهم برحمته.
وليس التهاجر منهم، والتصارم بأكثر من التقاتل في الحروب، والتواجه بالسيوف، ولا أعجب من التباهل فيما شجر بينهم من الاختلاف والتنازع في التأويل، وكل منهم في ذلك مأجور على قدر اجتهاده في طلب الحق، وحسن نيته، والله يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ونسأله أن لا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم.
فأما من بعد الصحابة من التابعين، ومن وراءهم من طبقات المتأخرين - فلنا مناظرتهم في مذاهبهم، وموافقتهم عليها، والكشف عن حججهم، والقول بترجيح بعضها على بعض، وإظهار الحق من أقاويلهمº ليقتدى بهم، والتنبيه على الخطأ منهمº لينتهى عنه. ص36 – 37.
6 / 8 / 1425 هـ
----------------------------------------
[1]- زكرة: وعاء من جلد يوضع فيه الخمر ونحوه.
[2]- نبع: شجر مخصوص يتخذ منه القسي.
[3]- جذم الشيء: أصله أو بقيته، والحائط: البستان.
[4]- الضمير يعود على الشجر الذي في البستان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد