قاعدة الانطلاق وقارب النجاة ( 1- 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومجتباه، وبعد: فإن هذا الموضوع مما يحتاج إلى التذكير به في كل مناسبة، والحديث عنه بين وقت وآخرº إذ هو لب الدين، وعموده الأعظم، وعليه مدار النجاة وتحقيق سعادة الأبد. واللهَ أسأل أن يلهمني الرشد، وأن يعم النفع بهذه السطور.

 

* منزلة الإخلاص:

الإخلاص هو حقيقة الدين. قال - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، وقال - سبحانه -: {فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الـخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]، فقصر - سبحانه - «ما يصح أن يدان به على الخالص منه، وهو المنزه عن شوائب الشرك قليله وكثيره، جليله وحقيره، فأفادت الآية أن الإخلاص شرط في دين الإسلام، وهو دين الأنبياء أجمعين. وطلب الإخلاص في جميع الشرائع دليل على عظم منزلة هذا الخلق العظيم»(1). وهو مفتاح دعوة المرسلين - عليهم السلام -، وأعظم الأصول التي جاؤوا بها. وهو رأس أعمال القلوب التي هي أجل أعمال العبد وأعظمها قدراً(2)، «فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح، والنية هي عمل القلب»(3). كما أنه شرط لقبول العمل وتحقق الزلفى عند رب العالمين.

 

ولجلالته وعظم منزلته أثنى الله على المتصفين به ونوه بذكرهمº مما يوضح أن الإخلاص كان أبرز سماتهم وأخص خصائصهم فقال - سبحانه - عن يوسف - عليه السلام -: {كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السٌّوءَ وَالفَحشَاءَ إنَّهُ مِن عِبَادِنَا الـمُخلَصِينَ} [يوسف: 24] (4)، وقال - تعالى - عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُل أَتُحَاجٌّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبٌّنَا وَرَبٌّكُم وَلَنَا أَعمَالُنَا وَلَكُم أَعمَالُكُم وَنَحنُ لَهُ مُخلِصُونَ} [البقرة: 139] (5).

 

وفـي المقـابـل جـاء الوعيــد الــشديد لمن تخلى عنـه، فقـال - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِـمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال - سبحانه - عن المشركين: {وَقَدِمنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ, فَجَعَلنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، «وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله»(6)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله - تعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشركº من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله - عز وجل -، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنياº لم يجد عَرف الجنة [يعني: ريحها] يوم القيامة»(2).

 

ولذا فالإخلاص مطلوب في جميع العبادات الظاهرة والباطنةº فلا يكفي أن يتوجه العبد إلى الله في عمل دون عمل، أو في عبادة دون معاملة، قال ابن القيم: «العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه»(3).

 

* حقيقة الإخلاص:

الإخلاص لغة: تصفية الشيء وتنقيته وتخليصه مما يكدره(4). وللعلماء في المراد به شرعاً عبارات متقاربة مدارها على أن يريد العبد «بطاعته التقرب إلى الله - سبحانه - دون أي شيء آخرº من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله - تعالى -»(5).

 

ولقصد الرب بالعمل وإخلاصه له صور عدةº إذ من العباد من يعبد الله - تعالى - تعظيماً له وتوقيراً، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به والتلذذ بطاعته وعبادته، ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن يستشعر ثواباً معيناً، ومنهم من يطلب ثواباً معيناً، ومنهم من يخاف عقابه من حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقاباً معيناً.

 

وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية شيئاً واحداً: أن العبد يريد الله - سبحانه -، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص، وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب»(6)، وإن كان لا ينبغي للعبد أن يخلي عبادته من قصد الحب لله المشوب بتعظيم، ومن الخوف والرجاءº إذ قوام العبادة ومدارها على ذلك، والله أعلم.

 

* صعوبة الإخلاص:

مع وضوح الإخلاص وجلائه إلا أنه من أشق الأمور على النفسº لأنه يحول بينها وبين تطلعاتها وشهواتهاº فتحقيقه والاستمرار فيه يتطلب مجاهدة كبيرة، وهذه المجاهدة لا تقتصر الحاجة فيها على عوام الناس فقط، بل الكل محتاج إليها حتى العلماء والأشداء من الصالحين والعباد، يقول الثوري: «ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي، إنها تقلب عليّ»(7)، ويقول يوسف بن الحسين الرازي: «أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر»(8)، ويقول يوسف بن أسباط: «تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد»(9)، «فالنفس الأمارة بالسوء تشين الإخلاص للعبد وتريه إياه «في صورة ينفر منها، وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي، والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناسº فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئاً تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه»(10)º ولذا فقد كان - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو: «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك»(11)، وكثيراً ما كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر في حلفه من قول: «لا ومقلب القلوب»(12)، وذلك لكثرة تقلب القلوب وتحولها في قصودها ونياتها.

 

* ثمرات الإخلاص:

للإخلاص ثمار عديدة، من أبرزها:

1- دخول جنات النعيم:

يدل على ذلك قول المولى ـ جل جلاله ـ: {إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الـمُخلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُم رِزقٌ مَّعلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مٌّكرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات: 40 - 43]، «فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون»(14).

 

2- قبول العمل:

الإخلاص شرط لقبول العمل، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ـ - عز وجل - ـ لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه»(15)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين والآخـرين يـوم القيامة ليــوم لا ريب فيه نادى منادٍ,: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير اللهº فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك»(1).

 

3 - الفوز بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة:

قال - صلى الله عليه وسلم -: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه»(2)، «فمن كان أكمل توحيداً كان أحــرى بالشــفاعـة»(3)، و «الشـفاعـة لأهل الإخلاص، ولا تكون لمن أشرك بالله»(4).

 

4 - تنقية القلب من الحقد:

إذا حلّ الإخلاص في قلب هذَّبه من الآفات، وحصَّنه من سيئ الصفات، يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث لا يَغِلٌّ عليهن قلب امرىء مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولـزوم جماعتهـم»(5)، قال ابن عبد البر: «فمعناه: لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلاً أبداً، يعني: لا يقوى فيه مرض ولا نفاق إذا أخلص العمل لله، ولزم الجماعة، وناصح أولي الأمر»(6).

 

5- مغفرة الذنوب ومضاعفة الأجر:

إذا تمكن الإخلاص من عمل كان سبباً لمغفرة ذنب صاحبه ومضاعفة أجرهº حتى لو كانت الطاعة في ظاهرها يسيرة أو قليلة، يقول ابن المبارك - رحمه الله - في هذا الشأن: «رُبَّ عمل صغير تكثره النية، ورُبَّ عمل كثير تصغره النية»(7)، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أعمال صغيرة غفر لأصحابها ببركة إخلاصهم، كحديث صاحب البطاقة التي فيها «لا إله إلا الله»، وحديث البغيِّ التي سقت كلباً فغفر الله لها، وقصة الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، قال ابن تيمية: «فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها، وكذلك هذا الذي نحَّى غصن الشوك من الطريقº فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحَّى غصن شوك عن الطريق يغفر له»(8).

 

وهذا يبين سر تفاوت منزلة الناس في المنازل. قال ابن القيم: «واعتبر هذا بحال الصدِّيقº فإنه أفضل الأمة، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملاً وحجاً وصوماً وصلاة وقراءة منه. قال أبو بكـــر ابن عياش: مـا ســبقكم أبو بكـر بكثرة صـــوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه»(9).

 

وفي المقابل متى كان أداء العبد للطاعة بدون إخلاص لله وصدق معه كان معرضاً للوعيد الشديدº لحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم شهيد وعالم قارئ ومنفق، عملوا من أجل أن يقول الناس: هذا شهيد، وهذا عالم، وهذا منفق(10)، وحديث: «لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار»(11)، وحديث: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟! »(12).

 

6 - الظفر بالنصر والتمكين:

قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفهاº بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم»(13)، وقال: «بشِّر هذه الأمة بالنصر والسناء والتمكينº فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب»(14)، ومن تأمل في حياة سلفنا الصالح يجدهم لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم، وزكاة نفوسهم، وإخلاص قلوبهم، وعملهم بعقيدة جعلوا كل شيء وقفاً عليها(15)، يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس»(16)، ومن كان الله معه «فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوءº فإن كان الله مع العبد فمن يخاف، وإن لم يكن معه فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده؟! »(1).

 

7 - نيل قبول الناس ومحبتهم:

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply