بسم الله الرحمن الرحيم
إن الذين يكتفون بالوقوف عند حافة الإيمان دون أن يمارسوا فعلاً أو عملاً أو تغييرًا مما يتطلبه الإيمان.. أو الذين يعملون على غير هدى أو هدف يستهدي بهدى الله ويستهدف حياةً نظيفةً، طهورةً، عادلةً، تليق بالإنسان.. هؤلاء وهؤلاء لا يستحقون وعدَ الله، طالما لم يقترن الإيمان عندهم بالعمل الصالح.. قال - تعالى -: \"وَالعَصرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ,* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ\" (سورة العصر)، أي إنه لا جدوى من الإيمان دون عمل صالح، ولا قيمة للعمل الصالح دون إيمان.
والأمة الإسلامية اليوم تملك الإيمان- ولو وفق مواصفاته ومطالبه الدنيا ولكنها لا تملك العمل الصالح الذي يتجذر في الإيمان بالله والذي يحرص على إنسانية الإنسان، والذي يملك رؤيةً شموليةً تنطوي على كافة مفردات الصلاح، والذي يمتد ليشمل بالإتقان والإحسان سائر الخبرات والممارسات البشرية، المادية والاجتماعية والأخلاقية والروحية على السواء.
نجد الأمة مفتقدةً لهذا العمل الصالح بتلك السمات والخصائصº ولذا نرى المسلمين يَذِلٌّون ويُستغلون، ويُستعبدون، ويهانون.. بل يُنفَون من الأرض ويُشرَّدون في الآفاق، ولا بد- لكي يحققوا الحياة الفاضلة السعيدة المتوازنة- من التقاء الحدَّين الإيمان والعمل الصالح.
وبمجرد نظرة سريعة على آيات كتاب الله، وأحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - يستطيع المرءُ أن يضع يديه على حشود الشواهد القرآنية والنبوية التي تؤكد هذه الحقيقة، وأنه بدون توافر الشرطَين لن يكون هناك انتصارٌ لعالم الإسلام، ولن يكون بمقدور العقيدة أن تجابهَ التحديات والضغوط، بمعزل عن عوامل القوة المنظورة، وإننا لنلمح هذا ليس فقط في تأكيد القرآن والسنة على معادلة الإيمان والعمل الصالح، بل في تلك الدعوة المؤكدة المستمرة على ضرورة اعتماد القدرات المادية، التي يزخر بها العالم المحيط بنا، والتنقيب عنها، والكشف عن أسرارها وقوانينهاº من أجل حماية المطالب العقائدية لهذا الدين، وحماية المنتمين إليه بالتالي.
والعمل الصالح المطلوب في الإسلام ينطوي على الإتقان والإحسان، فيما علمَنا إياه وأالزمَنا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه\" (رواه البيهقي عن عائشة بإسناد ضعيف، ورواه أيضًا أبو يعلى وابن عساكر وغيرها)، أي أن يُحسِن أداءَه، وصنعته، وإخراجَه وممارستَه.. إلـخ، وهو الأمر الذي ضيعناه في عصور تخلفنا الحضاري، بينما تشبَّث به الغربيون، زمن تأسيس حضارتهم ونموها، فاحتلوا مواقع الريادة والقيادة العالمية عبر القرون الأخيرة.
إن العمل الصالح إتقانٌ وإبداعٌ وإضافةٌ وإحسانٌ لصالح الجماعة المسلمة والبشرية عمومًا، وهو عندما يتجذر في الإيمان يصير من أشدِّ القربات إلى الله - سبحانه وتعالى-، ولقد وصف القرآن الكريم المؤمنين بأنهم \"يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ\" وأنهم \"لَهَا سَابِقُونَ\" (المؤمنون: 61)º كي لا يتأخر الإنسان العامل أو يتباطأَ فيتخلَّف عن المسيرة ويسبقه الآخرون.
فهو ليس إذن العمل المتقَن فحسب، ولكنه أيضًا العمل الذي يحرص على الزمن من الهدر، ويبتغي اللحاق بالهدف بأكبر قدر من الشدِّ والتوتر والفاعلية، والذين يَعِدُهم الإسلام بالثواب في الآخرة هم هؤلاء المؤمنون الذين يدفعهم إيمانهم- بكافة مطالبه وآفاقه- إلى العمل، ويحضٌّهم على أن يكون متقنًا ما وسعهم الجهد، وعلى أن يسابقوا الزمن في تحقيق مطالبهº من أجل أن يظلوا في المقدمة دومًا.. فالحياة الدنيا حلبةُ سباق.. والمؤمن الجاد هو الذي يسعى دائمًا ليس للفوز وحده ولكن لتحطيم الأرقام السابقة وتسجيل أرقام قياسية جديدةº كسبًا لمحبة الله وتقربًا إليه.
ولن يكون العمل الذي يُدخِل صاحبَه الجنةَ، أو يمنحه ثواب الله- وفق مواصفاته هذه- مقتصرًا على حقل من الحقول، أو جانب من جوانب الحياة، كما أنه لن يكون بالضرورة عملاً أخلاقيًّا صرفًا، بالمفهوم الشائع، أو اجتهادًا فقهيًّا، أو نشاطاً دعويًّا، أو وعظاً وتربيةً وتوجيهًا وإرشادًا.. إنه قد يكون هذا كله، وقد يمضي لكي يعبر عن القدرة البشرية المؤمنة في ساحات أخرىº تنقيبًا وكشفًا واختراعًا في أشد الميادين حسيةً وماديةً، ما دام أن صاحبه يبتغي وجه الله - سبحانه وتعالى-، وينفذ المطالب الملحة للإيمان، ويسعى لخدمة الإنسان، في سعيه لإعمار الحياة، وترقيتها على عين الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا شهد تاريخنا الحضاري أفواجًا من العلماء في مجالات العلوم الصرفة، الطبيعة، والفلك، والكيمياء، والرياضيات، والجغرافيا، والطب، والصيدلة، والنبات، والحيوان، والعلوم التطبيقية.. إلـــخ، جنبًا إلى جنب مع الفقهاء والدعاة والمربِّين والمرشدين والوعَّاظ والمعلِّمين والمفسرين والمحدِّثين.. وغيرهم، كلهم كانوا يبدأون باسم الله وينطلقون باسم الله، وينجزون أعمالهم مطمئنين إلى أنها ستُحسب لهم عند الله في ميزان الحسنات، التي تقربهم من الجنة وتبعدهم عن النار!! وهكذا أيضًا لم تمارس الكشوف والمنجزات الإسلامية أي نوع من الأنانية أو الاحتكار الذي يحجب حق الاستفادة والمنفعة من هذه الإنجازات والكشوف، وتركت أبوابها مشرعةً على مصاريعهاº من أجل أن يأخذ منها من يشاء ويبني عليها من يشاء، بغض النظر عن جنسه وبيئته وعقيدته ولونه ودينه، بل بغض النظر عن موقفه المعادي للإسلام وأهله وعالمه.
إن أخلاقية العمل الصالح وارتباطها المحتوم بالإيمان هما في الحقيقة صماما الأمان في مناهج وأساليب هذا العمل.. فليس مجرد العمل وحده هو المقياس، وإنما يتحتَّم أن يكون صالحًا، وكما رأينا فإن صلاح العمل لن يتحقق باجتهادات الناس وأهوائهم ومصالحهم.. إن مواصفات الصلاح التي تجعل العمل وجه العبادة الآخر وتضعه في خدمة الإنسان لا تتحدد إلا بالمنظور الديني القادم من عند الله - سبحانه وتعالى-، وإلا انحرف العمل مهما غُطِّي بديكورات التجميل والإصلاح.
--------
* أ. د/ أحمد العسال- نائب رئيس الجامعة الإسلامية بإسلام آباد (سابقًا).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد