ذكر الله


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) [آل عمران: 191]

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا أُنَبِّئكُم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: \" ذكر الله \"). [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم] (1)

لقد اختلفت الصورة والمعاني للحديث المذكور أعلاه لدى بعض المسلمين. ولو نظرنا في واقعنا لرأينا الكثيرين يتفلَّتون من مسؤولياتهم ويركنون إلى القعود أو إلى الجري اللاهث خلف الدنيا بحجة مسؤوليتهم عن رعاية البيت والأولاد، أو بأي عذر يتلمّسونه من خلال الوهن والعجز. وقد يكون هنالك من له عذره الشرعيّ في تخلّفه عن بعض التكاليف تحت ضغط واقع الحياة وإمكاناته. !

إننا نتحدّث عن الملايين الذين لم يكن لهم عذر إلا الجهل والوهن وحبٌّ الدنيا. وحساب الجميع عند الله، ولكننا نذكّر أنفسنا ونذكر الناس وندعو ونلحّ، عسى الله أن يهدي القلوب إلى النهوض والبذل على صراط مستقيم.

يلجأ بعض الناس إلى سوء تأويل الحديث الشريف: (ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم.. قال: \" ذكر الله \"). ويتوهّم هؤلاء أو يوهمون أنفسهم بأن هنالك عملاً خاصّاً اسمه \" ذكر الله \"، معزولاً عن غيره من الأعمال، يُغني عن كل سعي، يغني عن الإنفاق والبذل والجهاد، يجلس الإنسان من أجله يسبّح ويذكر اسم الله، وقد يرافق ذلك ما يُزَيّنه الشيطان من حركات باطلة لدى بعض الناس من الجهلة والمنحرفين.

إذا كان قد ظهر مثل هؤلاء في التاريخ الإسلاميّ، فإن الملايين الكثيرة اليوم من المسلمين قاعدون عن التكاليف الشرعية الربّانيّة، قعوداً جعلهم على نماذج شتى.

فمنهم من اعتقد أن الشهادتين تكفيه ولا حاجة له إلى الشعائر ولا إلى البذل والدعوة وغير ذلك. ومنهم من اعتقد أن أداء الشعائر هو كلٌّ ما هو مكلّف به ولا حاجة له إلى ما سواه. ومنهم من يقيم شعيرة ويترك غيرها، وتمتدّ النماذج في واقعنا اليوم امتداداً كبيراً، حتى شُلّت قوى كثيرة من المسلمين وتعطّلت، وحتى أصبحت مرتعاً لأعداء الله، يستفيد أعداء الله منهم، ولا يستفيد الإسلام منهم بشيء.

ولكن الأغرب والأعجب هو أن يظنّ بعضهم أن القعود لما يحسبه \" ذكر الله \" وتعطيل نشاطه وعطائه أمر يطلبه الحديث الشريف السابق ذكره.

ولو استعرضنا الآيات والأحاديث الواردة عن \" ذكر الله \" لوجدناها كثيرة جداً، لا يوجد بينها ما يشير إلى التصوّر الفاسد الذي أشرنا إليه. إنها كلها تحضّ على السعي والعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

هنالك أسباب كثيرة للجوء بعضهم إلى فساد التأويل وفساد الفهم، ومن ثمَّ فساد الممارسة. فربما كان الخلل في التصوّر الإيماني، أو الخلل الواسع بالقرآن الكريم والسنة، أو غلبة الأهواء، من بين الأسباب التي تدفع إلى ذلك.

ولكنني أريد أن أشير إلى سبب آخر فقهي قد يقع فيه من كان له علم حسن بمنهاج الله. وهو سبب يؤدي إلى فساد التـأويل في قضايا أخرى غير هذه القضية. هذا السبب هو أخذ النصّ من الكتاب والسنة أو أخذ جزء منه، ثمّ دراسته معزولاً عن سائر النصوص المتعلقة به، ومعزولاً عن قضايا أخرى متشابهة مرتبطة به. إن هذا العزل للنصّ يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم وسوء الممارسة والتطبيق واختلاف الفقه.

لو أنا أخذنـا بذلك الفهم الخاطئ للحديث الشريف، وقعد الناس عما أُنيط بهم من تكاليف ربّانية، لتقلّص الإسلام في الأرض وفُتِنَ الناس، وغلب الشرك وامتد.

يغيب عن بال هؤلاء أن القضية الأولى في حياة الإنسان على الأرض، هي أنه يحمل أمانة يجب الوفاء بها، وأنه محاسب على ذلك، وأن عمله كله يجب أن يكون عبادة لله وطاعة له، لتُمثِّل هذه الصورة الخلافة التي جُعلت للإنسان في الأرض. وهذه الأمانة والعبادة والخلافة ممتدّة متصلة مع ما أمر الله به من عمارة الأرض بحضارة الإيمـان، كل ذلك من خلال ابتلاء كتبه الله على بني آدم.

كل عمل يقوم به المسلم يجب أن يكون عبادة لله، ويجب أن لا يعطل عملاً آخر. ولا يستقيم هذا التصور إلا إذا كان هنالك نهج متكامل يرسم المسيرة ويُرتِّب الأعمال ويُنزلها منازلها، حسب أولوياتها ودورها.

فلا يجوز أن تُعَطَّل مسؤوليات البيت أو الوظيفة أو التجارة التكاليف الربانيـّة، ولا أن تضطرب الموازنة بين مختلف التكاليف ليطغي تكليف على آخر. ولا يجوز أن يكون ميزان الأولويات ميزاناً يُزيِّنُه الشيطان من خلال الأهـواء والمصالح: إن الميزان الحـق هو منهاج الله فمن الناس من يقبل على (العُمرة) مثلا وهو تارك لبعض الفرائض.

من أجل هذه الموازنة، ولتكون أمينة، كان (ذكر الله) ضرورة للمسلم، حتى يبني المسلم موازنته على أساس من ذكر الله وخشيته وعلى أساس من المنهاج الرباني. فإذا غاب ذكر الله كما أمر به أو إذا انحرف عن منهاج الله فأنى للموازنة أن تعدل أو تستقيم؟ !

ومع ذلك يبقى السؤال حائراً في أذهان الكثيرين: لماذا أخذ (ذكر الله) هذه المنزلة العظيمة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديثه السابق ذكره.

إن (ذكر الله) أخذ هذه المنزلة العظيمة حتى قال الله - سبحانه وتعالى-: (اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون). [العنكبوت: 45]

فجاء الحديث الشريف ليفصِّل هذا المعنى العظيم في الآية الكريمة: (.. ولذكر الله أكبر)! نعم إنه أكبر من كل الأعمال وخيرهُا، وإنه أكبر عند الله وأزكى، وإنه أكبر وأرفع في الدرجات، وإنه أكبر وخير من إنفاق الذهب والورق (ومن أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم.. )!

نعم! إنه أكبر من ذلك كله، لأن كلَّ عمل من هذه الأعمال باطل غير مقبول عند الله إلا إذا ارتبط بذكر الله. (فذكر الله) هو العمل الوحيد الجامع لكل أعمال المسلم صغيرها وكبيرها. إنه النبع الذي يرتوي العمل منه، والقوة التي تمدٌّ كلَّ أعمال المسلم بالحياة والقوة وبالقبول عند الله، ولا يوجد عمل آخر في الإسلام يقوم بهذا الدور العظيم. فكان لذلك كله أكبرَ الأعمال وأزكاها وخيرها.

ولذكر الله هو الذي يربط الأعمال فيما بينها، ويرتبها حسب أولوياتها، في جميع الظروف والأحول.

وذكر الله الذي تعنيه الآية الكريمة ويفصّله الحديث الشريف هو الثمرة الزكية للإيمان والتوحيد وللعلم بمنهاج الله (اتلُ ما أوحيّ إليك من الكتاب... )، وهو الثمرة الغنيّة لإقامة الشعائر (... وأقم الصلاة)، وهو الثمرة الطيبة للبعد عن الفاحشة والمنكر (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)!.

ذكر الله، كما يأمر به الله، هو الذي يضع الأعمال كلها على صراط مستقيم، على نهج قويم، على درب ممتد ليكون كلٌّه (في سبيل الله)، ماضياً من هدف ثابت إلى هدف ثابت، يطلب الجنّة والدار الآخرة ـ الهدف الأكبر والأسمى.

إنه يجعل العمرة عبادة مرتبطة بغيرها من العبادات، حتى لا تكون عملاً منعزلاً بنفسه مقطوعاً عن غيره. نعمت العمرة ونعمت السنن كلها حين يكون جزءاً من المسيرة المتكاملة والنهج المترابط بأهدافه ومراحله، لا انقطاع ولا توقّف ولا انحراف.

إن ذكر الله هـو الطِّيبُ الذي يزكو به العمل وينشر عبقه في الدنيا والآخرة.

فليس ذكـر الله عملاً معزولاً عن الحياة، أو عملاً مستقلاً عن سائر الأعمال: إنه يأخذ منزلته العظيمة من ارتباط الأعمال كلها به وارتباطه بها: الشعائر وطلب العلم، والدعوة، والإنفاق، والجهاد، والإحسان، ورعاية البيت وأمانة الوظيفة وأمانة التجارة، وكل ميدان عمل وسعي في الحياة الدنيا.

فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه) [رواه مسلم وأبوا داود والترمذي وابن ماجة](2)

نحن بحاجة اليوم إلى تركيز فقه آيات الذكر وأحاديثه في أبناء المسلمين على التصور الأمين، وخاصة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بدأنا به هذه الكلمة، حتى تنطلق مواهب الأمة وطاقاتها مجتمعة متآزرة على صراط مستقيم.

إن ذكر الله كما رأينا لا يعطّل التكاليف الربّانيّة، ولكنَّه يغذّيها ويقويها ويدفعها إِلى الميدان غنيةّ قوية.

إن ذكر الله يوقظ القلب ويحيي النفس والعزيمة، ويبعث النشاط والقوّة، ويذكّر بما أمر الله به. إن ذكر الله هو ذكر لأوامره وتكاليفه ودينه، والأمانة التي حملها الإنسان، وللموت والبعث والحساب والجنّة والنار! إنه ذكر ممتدٌّ لكل قواعد الإيمان والتوحيد وقواعد منهاج الله، لكل قواعد شرع الله ودينه الحق، وأوامره ونواهيه.

إن ذكر الله، على ضوء ذلك يرسم النهج ويمدّ الدرب، ويقيم عليه الأهداف الربانيّة الثابتة معالم متلألئة متوهجة بالنور الفياض.

إن ذكر الله الذي تذكره الآية الكريمة والحديث الشريف، هو الذكر الذي يصاحب المسلم العامل الناهض إِلى مسؤولياته وتكاليفه، ويصاحبه وهو يعمل ويسعى ويدعو ويربّي ويتعهّد ويبني ويجاهد، وكل ذلك في سبيل الله. فذكر الله الذي تعنيه الآية والحديث ليس للقاعد الغافل، ولا للذي يجري ويلهث خلف الدنيا ومتاعها.

أمام المسلم وهو ماضٍ, في سبيل الله خطران: خطر الضعف والتوقف، وخطر الانحراف. إن ذكر الله بشروطه الإيمانيّة يدفع من يتوقف ويمدّه بالعون لينطلق، ويقوّم من ينحرف ليعود إلى الصراط المستقيم.

نعم! ولذكر الله أكبر! ولكن كثيراً من المسلمين اليوم يظل التصوّر في ذهنهم أَن (ذكر الله) يعني التسبيح بالأصابع واللسان في حركات تصدر منه وهو واعٍ, لها أو غير واع، ولكنه قابع في مكانه حين يكون واقع الأمة يدعوه إلى النهوض فلا ينهض، ويحسب أن التسبيح الذي يقوم به يكفيه.

إن كلمة (الذكر) من أكثر الكلمات تكراراً وتأكيداً في الكتاب والسنّة. وفي جميع الحالات تظل الكلمة المرتبطة مباشرة باسم (الله) جلَّ جلاله أو باسم من أسمائه أو بكتابه. وكذلك يرتبط (الذكر) مع جميع التكاليف الربانية. وخير ما نفعله لنوضح هذه الصورة هو أن نأخذ قبسات من كتاب الله:

(ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر) [القمر: 22]

(إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]

فالذكر هنا هو القرآن الكريم أو هو تلاوته وتدبٌّره.

(قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربّه فصلى) [الأعلى: 15]

فلقد دفع ذكر الله المسلم الذي يزكي نفسه إلى النهوض إلى الصلاة، ومن ثمّ النهوض إلى سائر الشعائر من صيام وحج وزكاة، وإلى تسبيح ودعاء وغير ذلك.

(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج: 28]

(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) [البقرة: 198]

فارتبط ذكر الله هنا بالحج وشعائره ومناسكه. وتتوالى الآيات لتربط ذكر الله بمعظم المناسك في الحج أو جميعها.

(ولكلّ أمّة منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.. ) [الحج: 34]

وهنا نرى كيف يمتدّ (ذكر الله) مع جميع الرسالات الربانيّة، ويظلّ مرتبطاً بالمناسك والعمل والسعي.

وكذلك:

(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون) [آل عمران: 135]

فقد دفع الله هنا الاستغفار والتوبة. ما دام ذكر الله يصاحب المسلم في حياته، حتى حين يخطئ يكون ذكر الله هو القوة التي تعيده إِلى الحق والتوبة والإنابة.

(لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب: 21]

فارتبط ذكر الله بالسعي الصادق إِلى الدار الآخرة، والسعي الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأسوة الحسنة في هذه المسيرة، وما فيها من دعوة وبلاغ، وتربية وبناء، وجهاد ماضٍ, في سبيل الله، وغير ذلك من التكاليف الربانيّة.

(ومن يَعشُ عن ذكـر الرحمن نقيّـض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) [الزخرف: 35، 36]

ويصبح ذكر الله هنا هو الذي يدفع المؤمن إلى السبيل الحق والنهوض إلى ما فيه من تكاليف ربّانية، ومن يعشُ عن ذكر الله وينس ذكر الله يتولاه الشيطان ويصدّه عن السبيل ويزيّن له الضلال، حتى يحسب أنه مهتدٍ, فيزيّن له القعود عن التكاليف التي أمره الله بها، أو يفصلها بعضها عن بعض ليعطل هذه ويأخذ بتلك حسبَ هواه.

ذكر الله هو الذي يربط التكاليف الربانيّة كلها حتى تكون سبيلاً واحداً وصراطاً مستقيماً. واستمع هذه الآيات الكريمة:

(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) [الجمعة: 9، 10]

وهنا (فاسعوا إلى ذكر الله.. )، أي إلى صلاة الجمعة وما سبقها من تلاوة لكتاب الله، ودعاء وتسبيح، وخطبة. وحتى إذا انقضت الصلاة ارتبط ذكر الله بالسعي في الأرض والانتشار فيها يبتغون من فضل الله ويذكرون الله في كلّ أمرهم، وهم يدعون إلى الإسلام أو يعلِّمون أو يتعلمون أو يجاهدون.

ولنتدبر هذه الصورة من ذكر الله، حيث يأتي الذكر في أعمال وأنشطة متعددة مترابطة على درب واحد قويم وصراط مستقيم.

(إن ربّك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدِّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسّر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسَّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجده عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [المزمل: 20]

أنه درب ممتد، يَقوم المؤمن فيه بهذه الأنشطة والتكاليف الربانية، وكل تكليف منها هو ذكر لله وعبادة له: قيام الليل، تلاوة القرآن الكريم، القتال في سبيل الله، إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، وإقراض الله قرضاً حسنـاً، ليَعنيَ امتداد العمل الصالح على هذا الدرب، وعلى صراط مستقيم، يصاحبه ذكر الله، أو يكون هو نفسه ذكراً لله.

(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربِّ لو أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون) [المنافقون: 9ـ 10]

ارتبط ذكر الله هنا بالصراط المستقيم الممتد، الذي لا يجوز للمسلم أن يلهيه عنه أمواله ولا أولاده، لتظل مسيرته على صراط مستقيم في سبيل الله ممتدّة مع ذكر الله، أو هي كلها ذكر الله: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله.) وارتبط كذلك بقضية الإِنفاق في سبيل الله ليؤكد القرآن الكريم أهميتها، ولأنها موضوع رئيس في السورة كلها، ولأنها من أهم قضايا المسيرة في سبيل الله.

وصورة أخرى في سورة التغابن تربط العمل كله بالله - سبحانه وتعالى-. تربط العفوَ والتقوى والسمع والطاعة والإنفاق ثم الانطلاق في سبيل الله الممتد، تربط هذا كله بالله وبذكر الله يأتي هذا كله من خلال آيات بيّنات في ذروة البيان الحق:

(يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم. إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم. فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون. إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم. عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) [التغابن: 14 ـ 18]

ففي هذه الآيات البيّنات ارتبط الحذر والعفو والصفح والمغفرة بالله - سبحانه وتعالى-. جاء الأمر منه - سبحانه وتعالى- \" فاحذروهم \"، وضرب الله للمؤمنين مثلاً من نفسه ليغفروا ويحذروا في هذا الموقف، فالله غفور رحيم. وربط التقوى بـالله: (فاتقوا الله.. )، ثم ارتبطت بالله سائر التكاليف (واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا. ) وامتد السبيل في تعبير قرآني جامع معجز ممتدّ الظلال: (إن تقرضوا الله قـرضاً حسناً يضاعفه لكم... ) فكأنما العمل الصالح المرتبط بذكر الله قرض لله!

هذا كله هو ذكر لله ممتد في حياة المؤمن، لترتبط أعماله كلها، صغيرها وكبيرها، بالله - سبحانه وتعالى-، ليصبح ذكر الله هو الجامع لهذه الأعمال كلها، والدافع، والموجة لها.

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب) [النور: 37، 38]

(لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)! ثم تلا ذلك الصلاة والزكاة إشارة إلى الشعائر التي هي الأساس الذي يقوم عليه الإسلام كله، وعمل المؤمن كله، ولا يُقبَل العمل دون الوفاء بها، كما يفيد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بُنيَ الإسلام على خمس... )

(لا تلهيهم عن ذكر الله... )، عن العمل في سبيل الله، عن الصراط المستقيم، عن النهج الممتد الذي ينيره ذكر الله في كل سعي يمضي به المؤمن ليوفي عهده مع الله، ويؤدي الأمانة التي حملها، والخلافة التي جعلت له والعبادة التي خُلق لها من خلال ابتلاء وتمحيص.

 

ويوضح لنا - سبحانه وتعالى- هذا السبيل الممتدة والصراط المستقيم بآيات، تصور لنا السبيل في أساليب متعددة شتى. ففي سورة الصف نجد الصورة التالية في آيات بيّنات:

(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) [الصف: 10 ـ 13]

صورة مشرقة ودرب جليّ مشـرق ممتد، يشرق بذكر الله في كل عمل فيه. (تؤمنون بالله.. )! وهذا هو أول الذكر، والقاعدة الرئيسية التي يقوم عليها كل عمل بعد ذلك. وهل هنالك ذكر أشد من الإيمان به، ثم الانطلاق للعمل بطاعته على صراط مستقيم. ويصوّر لنا القرآن الكريم هذا الصراط المستقيم بالجهاد في سبيل الله:

(... وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم.. ) فجـاءت كلمـات: (تجاهدون في سبيل الله.. ) لترسم الدرب كله بعرض أهم التكاليف فيه لتدخل كلها فيه، وليكون الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس معبّراً عن وفاء المسلم بالتكاليف الربانيّة كلها بتكاملها وترابطها، ولتكـون ذكراً لله ممتـداً. وهل هنالك ذكر أعظم من الإيمان به والانطلاق إلى تكاليـف الإيمان كلها، والاستجابة إلى الله رسوله؟ !

حقـاً! (... ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) إن الله يعلم ما نصنع، وكيف نصنع ذلك، وهل كان عملنا ذكراً لله أم لم يكن!.

نرجو أن تكون صورة (ذكر الله) قد وضحت ومعناه قد بان، من خلال الآيات البيّنات.

(فذكر الله) إذن ليس عملاً معزولاً أو يعزل أعمال المؤمن ويفصلها. إنه العمل الجامع الذي يربط عمل المؤمن كله بالله، ويربطها كلها فيما بينها لتكون كلها مرتبطة بالله، ولتكون كلها (ذكر لله).

ولذلك جاء التوجيه الربّاني للمؤمنين جلياًّ مؤكداً بمتابعة الذكر آنا الليل والنهار:

(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلاً. هو الذي يصلّى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً) [الأحزاب: 41 ـ 43]

إنه ذكر الله ممتد في حياة المؤمن العامل القائم بالتكاليف الربانيّة، المستجيب لله ولرسوله، ليس بالتسبيح وحده، وإنما بجميع ما يأمر به الله ورسوله. ولذلك جاء ذكر الله ليكون أمراً من عند الله وتكليفاً منه، مع كل عمل المؤمن، ليذكر المؤمن ويطلق طاقاته وقدراته في سبيل الله.

(كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون. يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) [البقرة: 152ـ154]

يأتي التكليف بذكر الله: (... فاذكروني أذكركم... ) من خلال التكاليف الأخرى، ليكون ذكر الله ممتداً مع أعمال المؤمن. يأتي الأمر بذكر الله، لينهض المؤمن إلى ما جاء به رسول الله من آيات بينات وكتاب مبين، وإلى ما علَّمهم مما لم يكونوا يعلمون. وجاء الأمر وأعقبه الاستعانة بالصبر والصلاة، لما في التكاليف من جهد وبذل يعظم حتى يبلغ الموت في سبيل الله.

وجاءت الأحاديث الشريفـة توضح كذلك معنى ذكر الله ومنزلته في الإسلام:

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول الله - عز وجل - أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرتُهُ في ملأٍ, خير منه. وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربتُ إليه ذراعاً وإن اقترب إليّ ذراعاً اقتربتُ إليه باعاً. وإن أتاني يمشي أَتيته هرولة) [رواه الشيخان والترمذي] (3)

وعن أبي موسى الأشعري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثَل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت) [رواه الشيخان] (4)

ففي الحديث الأول توجيه للمسلم بأن يذكر الله - سبحانه وتعالى- في نفسه وفي ملأٍ, من الناس، وبأن يقترب إلى الله! وبماذا يقترب إلى الله؟ بالطاعة والعمل الصالح والاستجابة لأمره. فاقترن ذكر الله هنا بالعمل والسعي للتقرّب إلى الله بالعمل والبذل لا بالقعود، حتى يقترن العمل كله بذكر الله، وبالله، وليكون في سبيل الله.

وفي الحديث الثاني يظل ذكر الله نديّاً غنيّاً في البيت، وفي بيت المسلم، ليحيا البيت ولا يكون ميتا وكذلك الحديث الآخر عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكره مثل الحي والميت) [رواه البخاري] (5)

وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله). [رواه الترمذي] (6)

هكذا يأتي السؤال: أخبرني بشيء أتشبّث به؟ ! أي عن شيء يلازمه في كل أحواله وعمله، على ضعف وُسعِه وطاقته. وهكذا أتى الجواب: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله). فذكر الله هو العمل الذي يلازم المؤمن في جميع حالاته ومع جميع أنشطته وأعماله. فلا يعني الحديث أن يفصل ذكر الله عن مسؤولياته وتكاليفه التي يقوي عليها في حدود وسعه كما عرضناه.

هكذا يجب ذكر الله والصلاة على رسوله في كل مجلس يجلسه المؤمنون: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة \" نقصان وحسرة \" فإن شاء عذبهم وإن شاء عفر لهم) [رواه الترمذي] (7)

فعن الأغرّ أبي مسلم أَنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من قـوم يذكرون الله إلا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) [رواه الترمذي] (8)

وهكذا يمتدّ ذكر الله مع المسلم في نفسه وفي بيته وفي مجالسه، ويمتد إلى جميع الميادين.

وإذا أخذنا جانباً من ذكر الله وهو الدعاء، فقد سنّ الإسلام للمسلم الدعاء في جميع أحواله: عند نومه واستيقاظه، وخروجه، وفي طريقه إلى المسجد أو عمله، وفي دخوله المسجد، وعند دخوله بيته وعند الطعام والشراب واللباس، والخطبة والنكاح، والجماع، وفي مجلس دعوة وبلاغ، وفي ميدان الجهاد، وفي موقع ومع كل حالة.

فذكر الله: تسبيح ودعاء يرافق المسلم في جميع أحواله، وطاعة وعبادة يؤديها من تـلاوة أو صلاة أو سائر الشعائر، ومن طلب العلم، ومن دعوة وبلاغ، وتربية وبناء، وجهاد في سبيل الله، وفي كل ميدان يخوضه المسلم باسم الله وفي سبيل الله، كل هذا هو ذكر متصل لله.

وذكر الله على ضوء ما سبق يمكن أن نقسمه قسمين للتوضيح والتيسير، علماً أنهما في الواقع متصلان يكونان تصّوراً واحداً مترابطاً متناسقاً:

القسم الأول: الدعاء والتسبيح.

القسم الثاني: كل عمل صدقت فيه النية الخالصة لله فكانت النيّة ذكراً لله ممتداً مع العمل، وخضع في مسيرته لدين الله وشرعه، ماضياً على صراط مستقيم، مرتبطاً بالله، متجهاً لله وللدار الآخرة، ماضياً في سبيل الله، مرتبطاً بالدعاء والتسبيح.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أحمد: المسند: 5/195، الفتح: 14/198ـ الترمذي: 49/6/3374ـ ابن ماجة: 28/53/3835ـ المشكأة: 2269ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2629.

(2) مسلم: 2/30/373ـ أبو داؤد: 1/9/18 ـ الترمذي: 49/9/3381ـ ابن ماجة: 2/11/303.

(3) البخاري: 97/15/7405. مسلم: 48/1/2675.

(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته: (ط: 3 ـ (رقم: 5827). مسلم: 6/29/779.

(5) البخاري: 80/66/6407.

(6) الترمذي: 49/4/3372.

(7) الترمذي: 4/8/3377.

(8) الترمذي: 49/7/3375.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply