بسم الله الرحمن الرحيم
ليلتانِ اثنتانِ يجعلهما كل مسلمٍ, في ذاكرته، ليلةٌ في بيته مع أهله وأطفاله منعماً سعيداً، في عيش رغيد وفي صحة وعافية، يضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه، والليلة التي تليها وبينما الإنسانُ يجر ثياب صحته منتفعاً بنعمةِ العافية فرِحاً بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحلّ الهمُ من نفسه محلَّ الفرح، والكدرُ مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، قد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته، على بقاءٍ, في لبه، وصحةٍ, في عقله، يفكر في عمرٍ, أفناه، وشبابٍ, أضاعه، ويتذكرُ أموالاً جمعها، ودوراً بناها، وقصوراً شيدها، وضياعاً جدّ وكدّ في حيازتها، ويتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذريةً ضعافاً يخشى عليهم الضَياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يُجدي الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) عند ذلك، تغير لونه، وغارت عيناه ومال عنقه وأنفه، وذهب حُسنه وجماله، وخَرُس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطُق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشدة، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) ثم لا يزال يعالج سكراتِ الموت، ويشتد به النزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثةً هامدة وجيفةً بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا مَن جانبه، وتباعدوا من قُربه، ومات اسمه الذين كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، نعم.. إن أكبر واعظ للإنسان هو الموت، الذي قدره الله على خلقه، وكتبه على عباده، وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام، فما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوةُ أصفيائه - صلى الله عليه وسلم - كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله (إنك ميت وإنهم ميتون) فالموت، حتم لا محيصَ عنه، ولا مفرَ منه، يصلُ إلينا في بطون الأودية، وعلى رؤوس الجبال، وفوق الهواء، وتحت الماء، فلا ينجو منه ملائكة السماء، ولا ملوك الأرض، ولا أحد من أنسٍ, أو جن أو حيوان، ولو كانوا في بطون البروج، وغياهِب الحصون (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) ولو نجا أحد من الموت لبسطةٍ, في جسمه، وقوةٍ, في بدنه، أو وفرةٍ, في ماله، وسعةٍ, في سلطانه وملكه، لنجا من الموت كثير من الناس، وإلا فأين عاد وثمود؟ وفرعون ذو الأوتاد؟ أين الأكاسرة؟ وأين القياصرة؟ أين الجبابرة والصناديد الأبطال؟ فالموت لا يخشى أحداً، ولا يُبقي على أحد، ينتزع الطفل من حضن أمه، ويهجم على الشاب الفتي، والفارسِ القوي، الموت على وضوحِ شأنه، وظهورِ آثاره، سرُّ من الأسرار، التي حيرت الألباب، وأذهلت العقول، وتركت الفلاسفةَ مبهوتين، والأطباءَ مدهوشين، الموت!! كلمةٌ ترتجُ لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذُكر في قوم إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العَبرة، وأحسوا بالتفريط وشعروا بالتقصير فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم \" ألهكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون \".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد