خطر الاستهانة بالذنوب وكيفية التوبة الصادقة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فاعلم رحمني الله وإياك أن الله - عز وجل - أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال - سبحانه -: \"يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً\" (التحريم الآية 8) ومنحنا الله مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال - صلى الله عليه وسلم -: \" إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة \" (رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209). ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل. ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر، فيقول مثلاً: وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية (الأجانب ما سوى المحارم.) ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات، حتى إن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها؟ أهي كبيرة أم صغيرة؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري - رحمه الله -: 1- عن أنس - رضي الله عنه - قال: \" إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات \". (والموبقات هي المهلكات). 2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: \" إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي بيده فذبه عنه \". وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ,، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه). وفي رواية \"إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه\" (رواه أحمد (صحيح الجامع 2686 2687) وقد ذكر أهل العلم أن: الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها. ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ونقول لمن هذا حاله: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت. وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم. إنها لمن يؤمن بقوله - تعالى -: \"نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم\" (الحجر الآية 49) كما يؤمن بقوله: \"وأن عذابي هو العذاب الأليم\". (الحجر الآية 50) شروط التوبة ومكملاتها: كلمة التوبة، كلمة عظيمة، لها مدلولات عميقة، لا كما يظنها كثيرون ألفاظا باللسان ثم استمرارا على الذنب، وتأمل قوله - تعالى -: \"وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه\" (هود الآية 3) تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار. ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث. وهذا ذكر بعضها: الأول: الإقلاع عن الذنب فوراً. الثاني: الندم على ما فات. الثالث: العزم على عدم العودة. الرابع: إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب البراءة منهم. وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح، نسوقها مع بعض الأمثلة: الأول: أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، كعدم القدرة عليه أو على معاودته، أو خوف كلام الناس مثلاً. فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس، أو ربما طرد من وظيفتـه. ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية، أو لأنها تضعف جسمه وذاكرته. ولا يسمى تائباً من ترك السرقة لأنه لا يجد منفذاً للبيت، أو لم يستطع فتح الخزينة، أو خشي الحارس والشرطي. ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً. ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه. وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه. بل لابد لمثل هذا من الندم، والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف، على فواتها ولمثل هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: \" الندم توبة \" . والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء\" (رواه أحمد والترمذي وصححه. (صحيح الترغيب والترهيب 1/9) الثاني: أن يستشعر قبح الذنب وضرره، وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل. وقد ساق ابن القيم (- رحمه الله -) في كتابيه الداء والدواء، والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها: حرمان العلم والوحشة في القلب وتعسير الأمور ووهن البدن وحرمان الطاعة ومحق البركة وقلة التوفيق وضيق الصدر وتولد السيئات واعتياد الذنوب وهوان المذنب على الله وهوانه على الناس ولعنة البهائم له ولباس الذل والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة ومنع إجابة الدعاء والفساد في البر والبحر وانعدام الغيرة وذهاب الحياء وزوال النعم ونزول النقم والرعب في قلب العاصي والوقوع في أسر الشيطان وسوء الخاتمة وعذاب الآخرة. وهذه المعرفة من العبد لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها:

 1- أن يعتقد أن وزرها أخفٌّ.

 2- لأن النفس تميل إليها أكثر، والشهوة فيها أقوى.

 3- لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز، أسبابها ليست حاضرة متوافرة.

 4- لأن قرناءه وخُلطاءه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم.

 5- لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي، فأنشد أبو نواس:

أتراني يا عتاهي *** تاركاً تلك الملاهي

أتراني مفسداً بالنسك **** عند القوم جاهي

الثالث: أن يبادر العبد إلى التوبة، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته يحتاج إلى توبة. الرابع: أن يخشى على توبته من النقص، ولا يجزم بأنها قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله. الخامس: استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً، كإخراج الزكاة التي منعها في الماضي ولما فيها من حق للفقير كذلك. السادس: أن يفارق موضع المعصية، إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى. السابع: أن يفارق من أعانه على المعصية (وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه). والله يقول: \"الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين\" (الزخرف الآية 67) وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم. وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي. الثامن: إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها. ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات. التاسع: أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء، وأن يحرص على حِلَق الذكر ومجالس العلم، ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي. العاشر: أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسُحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب. الحادي عشر: أن تكون التوبة قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح. والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه\" (رواه أحمد والترمذي (صحيح الجامع 6132)، وقوله: \" من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه \" (رواه مسلم) توبة عظيمة ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة، صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن بريدة (رضي الله عنه): أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: \" يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده. فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية. فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه، فقال: \" أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ \" قالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل، من صالحينا فيما نرى. فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرُجم \". قال: فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى، قال: أما لا، فاذهبي حتى تلدي. قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال: \" اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه \". فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها. فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: \" مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكسٍ, (وهو الذي يأخذ الضرائب) لغفر له \" (رواه مسلم). ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت \". وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها! فقال: \" لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله (- عز وجل -) (رواه عبد الرازق في مصنفه 7/325.)

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply