بسم الله الرحمن الرحيم
2- فضائل الصبر في القرآن الكريم:
حديث القرآن عن فضائل الصبر كثير جداً، وهذه العجالة لا تستوعب كل ما ورد في ذلك لكن نجتزىء منه بما يلي:
1- علق الله الفلاح به في قوله: ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)).
2- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره: ((أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)) وقال: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)).
3- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين: ((وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون)).
4- ظفرهم بمعية الله لهم: ((إن الله مع الصابرين)).
5- أنه جمع لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم: ((أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)).
6- أنه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)).
7- أنه علق النصر بالصبر والتقوى فقال: ((بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)).
8- أنه - تعالى - جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد بأعظم منهما: ((وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)).
9- أن الملائكة تسلم في الجنة على المؤمنين بصبرهم ((والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)).
10- أنه - سبحانه - رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).
11- أنه - سبحانه - جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور: أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها: ((ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور)).
12- أنه - سبحانه - جعل محبته للصابرين: ((والله يحب الصابرين)).
13- أنه - تعالى - قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون: ((وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
14- أنه - سبحانه - أخبر أنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور: ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)).
15- أنه - سبحانه - أثنى على عبده أيوب أجل الثناء وأجمله لصبره فقال: ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فمن لم يصبر فبئس العبد هو.
16- أنه حكم بالخسران التام على كل من لم يؤمن ويعمل الصالحات ولم يكن من أهل الحق والصبر: ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا... السورة)).
قال الإمام الشافعي: \"لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم، وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم، وقوة العمل، وهما: الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج لتكميل نفسه فهو محتاج لتكميل غيره، وهو التواصي بالحق، وقاعدة ذلك وساقه إنما يقوم بالصبر\".
17- أنه - سبحانه - خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال - تعالى -: ((ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة)).
18- أنه - تبارك و تعالى - قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيم الإسلام ومثله العليا، فقرنه بالصلاة ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات))، وجعله قرين التقوى ((إنه من يتق ويصبر))، وقرين الشكر ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور))، وقرين الحق ((وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))، وقرين المرحمة ((وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة))، وقرين اليقين ((لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون))، وقرين التوكل ((نعم أجر العاملين))، ((الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))، وقرين التسبيح والاستغفار ((فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار))، وقرنه بالجهاد ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)).
19- إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم ((ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)).
وبعد، فهذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل، ولعل فيما ذكر عبرة ودافع على الصبر فالله المستعان.
3- مجالات الصبر في القرآن الكريم:
أ - الصبر على بلاء الدنيا:
لقد أخبرنا الله - تعالى - بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها خلقت ممزوجة بالبلاء والفتن فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد)) أي مشقة وعناء، وأقسم على ذلك بقوله: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون،)) وإذا أطلق الصبر فلا يكاد ينصرف إلى غيره عند كثير من الناس.
ب - الصبر على مشتهيات النفس:
وهو ما يسمى بالسراء فإن الصبر عليها أشد من الصبر على الضراء، قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صِدِّيق، وقال عبد الرحمن بن عوف: \"ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر\". إن المؤمن مطالب بأن لا يطلق لنفسه العنان في الجري وراء شهواتها لئلا يخرجه ذلك إلى البطر والطغيان وإهمال حق الله - تعالى - فيما آتاه وبسط له، قال - تعالى -: ((ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون))، ويمكن أن نجمل حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا النوع بأربعة أمور:
1- أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.
2- أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع.
3- أن يصبر على أداء حق الله - تعالى - فيها، ولا يضيعه فيسلبها.
4- أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون وإنما كان الصبر على السراء شديداً لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره.
ومما يدخل في هذا النوع من الصبر، الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين من الدنيا، والصبر عن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين قال - تعالى -: ((أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)) وقد نهى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله: ((ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى))، فالمؤمن من يعتز بنعمة الهداية ويعلم أنما هم فيه من الدنيا ظل زائل وعارية مستردة ولا يبالي بمظاهر الفخامة التي يتبجح بها الطغاة، لقد قال الذين يريدون الحياة الدنيا لما رأوا قارون في زينته ((يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم))، أما أهل العلم والإيمان فقالوا: ((ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون)).
ج - الصبر على طاعة الله - تعالى -:
إن الصبر على طاعة الله أعظم مجالات الصبر وهو لذلك أشدها على النفوس وقد جاءت صيغة الأمر بالصبر على الطاعة مغايرة لغيرها فقال - تعالى -: ((رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته، هل تعلم له سمياً))، وقال: ((وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى))، فاستخدم صيغة الافتعال وهو يدل على المبالغة في الفعل إذ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لمشقة مجاهدة النفوس على القيام بحق العبودية في كل الأحوال. واعلم أن الصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
1- قبل الطاعة، بتصحيح النية والصبر على شوائب الرياء، وعقد العزم على الوفاء ولعل هذا يظهر سر تقديم الصبر على العمل الصالح في قوله: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).
2- حال الطاعة بأن لا يغفل عن الله فيها، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابها وسننها، ولعله المراد بقوله: ((نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)) صبروا إلى تمام العمل.
3- بعد الفراغ منها فيصبر على عدم افشائها والمراءاة والإعجاب بها، وترك ما يبطلها قال - تعالى -: ((ولا تبطلوا أعمالكم))، وقال: ((لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)).
د - الصبر على مشاق الدعوة إلى الله:
غير خاف عليك ضرورة صبر الداعية على ما يلاقيه في دعوته، فإنه يأتي الناس بما لا يشتهونه ولا يألفونه، وبما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم، فلذلك يقاومون الدعوة بكل ما أوتوا من قوة، ويوصلون الأذى بالداعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
- إن اعراضهم عن الدعوة يحتاج إلى صبر كصبر نوح الذي بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وحكى الله عنه قوله: ((رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً... الآية)).
- وما يحيكه المغرضون من مؤامرات الكيد التي تؤذي الداعية في أهله ونفسه وماله تحتاج إلى صبر، وهذا ما أكده الله - تعالى - بقوله: ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا، فإن ذلك من عزم الأمور))، وقد أمر الله رسوله بقوله: ((واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً))، وقد أجمع الأنبياء على رد أذى أقوامهم بالصبر ((ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون))، ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله))، وسحرة فرعون لما وقر الإيمان في قلوبهم قابلوا تهديده بالقتل والصلب بقولهم ((إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين)).
- إن طول الطريق، واستبطاء النصر يحتاج إلى صبر، وصبر حار شديد ولذا خوطب المؤمنون في القرآن بقوله - تعالى -: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب))، وقوله: ((حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)).
هـ الصبر حين البأس:
أي الصبر في الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف، فالصبر ثَمّ شرط للنصر، والفرار كبيرة، وقد أثنى الله - تعالى - على الصابرين في ساعة القتال فقال في آية البر: ((والصابرين في البأساء)) أي الفقر ((والضراء)) أي المرض، وحين البأس، ((أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)) ويوجبه على عباده بقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين)).
وعندما تضطرب أمور المعركة، وينفرط عقدها تكون الحاجة إلى الصبر أعظم وأشد كما حدث في أحد حين انكشف المسلمون وشاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل، انجفل فريق من المسلمين منهزمين، وصبر آخرون فنزل من القرآن إشادة بمن صبروا، وإنكار على أولئك: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) ثم لا يعذرهم في فرارهم وانهزامهم ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين)) إلى أن قال: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)).
وقد حدثنا عن الثلة المؤمنة مع طالوت عندما انتصرت لما اعتصمت بالصبر، وقد اختبر طالوت من معه بقوله: ((إن الله مبتليكم بنهر..)) ((فصبر ثلة مؤمنة على ترك الشرب من النهر إلا غرفة باليد)) ((فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين))، لقد سألوا الله حين اللقاء صبراً وأوعبوا، فقالوا ((أفرغ))، إذ هم بحاجة إلى صبر كثير، وكانت النتيجة ((فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت.. )).
و - الصبر في مجال العلاقات الإنسانية:
لا تستقيم الحياة مع الناس إلا بالصبر بدءاً بأقرب من يعاشرك وهي الزوجة وانتهاءً بأبعد الناس عنك، وقد قال الله - تعالى - مبيناً ما ينبغي أن يتحلى به الزوج من صبر في مواجهة مشاكل الزوجية: ((وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً))، أي فاصبروا فعاقبة الصبر حميدة، ويوصي الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من الناس من ضر، وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها فيقول: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
ومما يُنظم في هذا العقد صبر التلميذ على التعلم والمعلم، وهذا ما حدثنا عنه في القرآن عندما ذهب موسى إلى الخضر ليعلمه مما علمه الله، قال له الخضر إما لأن الله أخبره بالحقيقة أو تهييجاً على الصبر -قال: ((إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً))، فتعهد موسى بالصبر - قال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً))...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد