بسم الله الرحمن الرحيم
الظلم، ما الظلم؟ وما أدراك ما الظلم؟! إنه خلق ذميم، وذنب جسيم، وأذى عظيم، ووصف لئيم، يحلق الدين، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات والنكبات، ويورث العداوات والمشاحنات، ويثمر الأحقاد والضغائن، ويسبب القطيعة والعقوق، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وشقاء، وكدر وبلاء.
أما والله إن الظلم لؤمٌ وما زال المسيء هو الظلومُ
إلى الديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ
ستعلم يا ظلومُ إذا التقينا غداً عند الإله مَنِ الملومُ(1)
والظلم طبيعة بشرية، وجبلة متأصلة في النفوس كما قال - تعالى - : {وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، فهذا هو الأصل في الناس: الظلم والجهل إلا من زكَّاه الله بالإيمان والتقوى، والعلم والهدى، والعدل والإنصاف.
وقد صدق المتنبي(2) حين قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ,، فلعله لا يظلمُ
قال الماوردي(3): «وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجز، أو سلطان رادع، أو عجز صاد، فإذا تأملتها لم تجد خامساً يقترن بها».
* تعريف الظلم وأنواعه:
الظلم معناه: مجاوزة الحد، ووضع الشيء في غير موضعه(4).
وهو أنواع شتى، وله صور كثيرة، ووجوه متنوعة عديدة، ولكن يمكن إجمالها في ثلاثة أقسام:
الأول: ظلم العبد نفسه بالإشراك بالله (الظلم الذي لا يغفر الله منه شيئاً).
الثاني: ظلم العبد نفسه بمعصية الله (الظلم الذي لا يعبأ به شيئاً).
الثالث: ظلم العبد لغيره من العباد (الظلم الذي لا يترك الله منه شيئاً).
أما القسم الأول: فإنه أقبح الظلم وأفحشه، قال الله - تعالى - : {إنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك»(5)، فالشرك أعظم أنواع الظلم، ولهذا كان جزاء صاحبه أن يخلد في النار يوم القيامة، كما قال - تعالى - : {إنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ,} [المائدة: 72].
وكل ذنب قد يغفره الله - تعالى - إلا الشرك فإنه لا يُغفر لصاحبه، قال الله - تعالى - : {إنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
ومن الشرك الأكبر المخرج من الملة: التقرب إلى الموتى وأصحاب القبور من الأولياء والصالحين وغيرهم، وذلك بدعائهم والاستغاثة بهم، والذبح والنذر لهم، والطواف بقبورهم، والحلف بهم تعظيماً لهم، واعتقاد النفع والضر فيهم، وأن لهم تصرفاً في هذا الكون، وقدرة على الدفع والرفع، والضر والنفع، والعطاء والمنع، كما هو الواقع في بعض بلاد الإسلام مع الأسف الشديد.
وأما القسم الثاني: فهو ظلم العبد نفسه بمعصية الله والخروج عن طاعتهº لأن حق الله - تعالى - على عباده أن يعبدوه ويوحدوه، ويطيعوه ولا يعصوه، ويشكروه ولا يكفروه، فإذا خالفوا ذلك كانوا من الظالمين.
قال الله - تعالى - : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقال: {وَتِلكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ} [الطلاق: 1]º أي: أساء إليها، وذلك بتعريضها لسخط الله - تعالى - ومقته، وأخذه وسطوته.
قال ميمون بن مهران: «إن الرجل يقرأ القرآن، وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟ قال: يقرأ: {أَلا لَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وهو ظالم»(1).
والله - تعالى - غني عن عباده، لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، إنما ينفعون أنفسهم أو يضرونها، قال الله - تعالى - : {مَن عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبٌّكَ بِظَلاَّمٍ, لِّلعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَمَن جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إنَّ اللَّهَ لَغَنِيُّ عَنِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
فمن أشرك بالله أو عصاه، فإنه لا يظلم إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، كما قال ربنا - عز وجل - : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ} [البقرة: 57].
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكمº ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكمº ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألتهº ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه»(2).
وأما القسم الثالث: فهو ظلم العبد لغيره من العباد، وهو محل البحث هنا، وهو أشهر أنواع الظلم وأكثرها.
وهذا القسم أغلظ من سابقه، وأعظم إثماً، وأسوأ عاقبة، ولا يمكن الخروج منه والتخلص من شؤمه وإثمه بمجرد الإقلاع والندم، بل لا بد من استحلال صاحبه، ورد حقه إليه. ومَن الذي يضمن لنفسه أن يحله المظلوم ويبيحه، إذا استحله واستباحه؟! فنسأل الله - تعالى - أن يعيذنا من ظلم العباد، وألا يجعلنا في القوم الظالمين.
قال سفيان الثوري - رحمه الله - : «إن لقيت الله - تعالى - بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله - تعالى -º أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد»(3).
وذُكر عن أبي بكر الوراق أنه قال: «أكثر ما ينزع الإيمان من القلب: ظلم العباد»(4).
وقال ابن القيم - رحمه الله - : «والظلم عند الله - عز وجل - يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به.
وديوان لا يترك الله - تعالى - منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله - تعالى - يستوفيه كله.
وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه - عز وجل - ، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشركº فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد. وديوان المظالم لا يُمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها»(5).
وما ذكره ابن القيم - رحمه الله - هو معنى حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً: فالإشراك بالله - عز وجل - ، قال الله - عز وجل - : {إنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً قط: فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فمظالم العباد بينهم، القصاص لا محالة»(6).
وقد حذَّر الله عباده من الظلم والتظالم، فقال في الحديث القدسي: «يا عبادي، إني حرَّمُت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرماًº فلا تظالموا»(7).
فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يظلم عباد الله، ويؤذيهم ويضارهم، ويتجنى عليهم، ويعتدي على مصالحهم، وينتهك محارمهم. كما لا يجوز له أن يمنعهم حقوقهم، ويبخسهم أشياءهم، ويقصِّر فيما يجب عليه تجاههم، فإن الخلق خلق الله، وأحبهم إليه أنفعهم لهم، وخير الناس أقومهم بمصالح الناس. وقد أوجب الله على المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين، متراحمين متكاتفين، متواصلين متعاطفين، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(1).
فإذا كان المؤمن لا يكمل إيمانه الكمال الوا
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد