بسم الله الرحمن الرحيم
\'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء\'
بهذا الحديث النبوي الشريف يفتح العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله - كتابه المبارك \'الداء والدواء\' أو \'الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي\'
مؤصلاً لقاعدة جلية ومبينًا لمسلك المسلم تجاه المواقف والأحداث وكذا المشاكل والعقبات، فالله - تعالى - أرحم بعباده من الأم بوليدها، وهو - جل وعلا - لم يخلقنا ليعذبنا بل لنشكره ونؤمن به، ولذا فهو - سبحانه - لم يخلق في هذه الأرض مشكلة إلا وجاء حلها معها، ولكن أين تكمن المشكلة؟
إنها تكمن في أحد أمرين:
الأول: عدم رؤية الحل واليأس من العثور عليه فندفع إلى الحلول الوهمية الخاطئة.
الثاني: رؤية حلول غير صحيحة وغير ناجحة في إنهاء الأزمة والموقف ونتصور أنها الحق.
وفي ظل هذا التصور يمكننا هنا أن نفهم الشق الثاني من الحديث النبوي المذكور في أول المقال وهو \'ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء.. علمه من علمه وجهله من جهله.. \'.
وإذا كان السبب الأول في تطور الأزمات وتفاقمها وهو عدم رؤية الحل واليأس من العثور عليه أو اليأس من إمكانية تحقيقه يظهر بوضوح في أزمة الشهوة لدى الشباب التي يتمحور أصل خطاب الشيطان للشباب فيها على استحالة احتمال الزواج ومشقته، فهيا إلى حلول أخرى مؤقتة ولكنها مدمرة.
فإننا في مقالنا هذا ونحن نعالج تصورًا مفاده أن من هتك الستر ليس له أن يستعيده من جديد، نحن هنا نعاني من شقي المشكلة الأول والثاني فما بين وسائل طرح لقضية الحياء ومفهومه جامدة إلا فيما ندر من الكتابات والخطابات التي تعني بيان كيفية زراعته وإنمائه وما بين توجيهه لحول أخرى لمن ولغوا في المعصية تحاول مساعدتهم على الخلاص من براثنها والهروب من أسرها، لكنها حلول ثانوية مؤقتة تنتهج سياسة التسكين المؤقت والإنقاذ من فورة الموقف.
وما بين هذا أو ذاك يتوه الشباب في تجربة مختلف أشكال الحلول، والله - تعالى - الرحيم بعباده قد أورد لنا في كتابه دواءً لكل داء وحلاً لكل مشكلة.
وقد أورد للوقاية من المعاصي قاعدة جليلة يظهر لنا من خلالها موطن الداء وشكل العلاج وعلى من تقع المسئولية الحقيقية في الوقوع في الخطأ ألا وهي قوله - تعالى - في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى} [النازعـات: 40 ـ 41]
إذن فهي معادلة لها طرفان الأول خوف مقام الله - تعالى - والثاني إلزام النفس بمنعها عن الهوى والخلل المؤدي إلى وقوع المعصية لن يتجاوز هذان الطرفان إلى غيرهما، فهو إما ناشئ عن ضعف في أحدهما أو خلل في التصور الواحد من هذين الطرفين.
ودعونا نضرب أمثلة من الواقع قد أصاب أصحابها الحيرة من أنفسهم للتناقض العجيب الواقع داخل نفوسهم.
فهذا واحد شديد الخوف من الله ويقف في الصلاة يبكي خلف الإمام حين يدعو، وهو بعد ارتكابه للمعصية يجلس يبكي ويبكي بشدة تجعلك تتعجب أليس هذا هو الذي ارتكب هذه المعصية منذ قليل منذ لحظات وثوان؟ بلى هو؟ ولا يفهم الشاب أين المشكلة فيدخل الشيطان متطوعًا بإعطاء التفسير بالتصور الشيطاني الذي يبدو في أوله ربانيًا:
وهو أنك منافق بوجهين، ثم بعد ترسيخ هذا المفهوم تنقل إلى الذي يليه وهو أنك باستمرار الوقوع في المعصية وعدم القدرة على التخلص منها، ثم بعد ذلك الدخول في الحلقة المفرغة من ارتكاب للذنب فبكاء فتوبة فندم فسكون فشهوة فارتكاب للذنب، وهكذا يتبين أنه لا يمكن أن أكون صالحًا فعلى الأقل لن أكون منافقًا فعلي أن أترك المحاولة للتوبة وامتنع عن البكاء والندم فلم يُجدِ شيئًا وأرضى بالأمر الواقع. {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
بينما لو أحسن صاحبنا الشاب النظر والتأمل فهم أنه ليس منافقًا كلا بل هو قد حقق الشق الأول في الوقاية من المعصية ولكنه أهمل بشدة الشق الثاني وهو نهي النفس عن الهوى أو التربية أو ضبط النفس وملكها فسلطانها عليه شديد وهذه لا بد من تقييدها بلجام الأمر والشرع لا الهوى، وهذا يتأتى بمحاولات مستمرة على مدى طويل لبناء الحياء وكسر الحلقات المفرغة التي يدفعنا إليها الشيطان حتى تتحقق مقولة الخنساء - رضي الله عنها - \'عودوا جوارحكم الطاعة تستوحش المعصية\'.
إن تحديد مكمن الداء هو نصف الطريق إلى العلاج الصحيح، وأن أعظم سعي للشيطان إنما يكون في رسم أوهام لأسباب الداء يدفع الشخص إلى التعلق بها، ولو تأملها العاقل لرأى في نهاية الإيمان بها وتيقنها هلاكه ودفعه إلى قعر الجحيم فهو المقسم على الله - تعالى -: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ}.
فدعونا أولاً نطرح التصورات الفاسدة جانبًا، وتسألني كيف أعرف الفاسد من التصورات من غير الفاسد؟ فأجيب عليك بقاعدة ذهبية: انظر إلى آخر التصور إلى أين يذهب بك إلى عمل وبذل وارتقاء وصعود وتفاؤل، أم إلى هزيمة ويأس وفقد أمل وهبوط وتشاؤم.
واعلم أن طريق الجنة درجات بعضها فوق بعض لمن أرادوا الصعود فوق بعض لمن أرادوا الصعود كما أن طريق النار دركات بعضها تحت بعض لمن راد الهبوط.
إن الآية الكريمة توضح لنا بما لا يدع مجالاً للتوهم والتردد أنه لا بد من حاجز بين العبد وبين المعصية ومن ثم توضح لنا مكوناته أو شقيه الأساسيين وهما:
[1] خوف من مقام الله - تعالى -.
[2] نهي النفس وزجر لها عن هواها متى خالف أمر الله - تعالى -.
وهذا الشق الثاني يكون عن طريق زراعة موانع ومعوقات وبناء حواجز وسدد داخل النفس ترفع مستوى تحكم وسيطرة الإنسان على نفسه بما يحقق قيادته لها حيث شاء.
هذا المانع والحاجز لا بد أن يكون داخليًا ينبع من البناء الأخلاقي للإنسان، وهذا البناء هو الذي يصوغ فكره وتصوراته ومفاهيمه وسلوكيات، وبناءً عليه تتبلور أهدافه وتوجهاته لذا كانت العناية الربانية ثم النبوية بهذا البناء عظيمة كما جاءت في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق\'.
ومما يؤكد لنا أهمية الشق الثاني المكون للحاجز الرباني بين العبد والمعصية الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني.
1ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \'إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء\'.
إن الحياء كما عرفه أهل العلم في اللغة أنه انقباض وانزواء وانكسار في النفس يصيب الإنسان عند الخوف من فعل شيء يعيبه وهو مشتق من الحياة، ولذا قال بعض الفصحاء: حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه.
كما عرف علماء الشريعة بأنه صفة وخلق يكون في النفس يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق.
أو هو بمعنى آخر مرادنا هنا الذي نسعى إليه وهو خلق نزرعه في نفوسنا يقوم بالدور المطلوب وهو نهى هذه النفس عن القبيح وهو كل ما يغضب الله - تبارك و تعالى -.
ولكن كيف نزرع الحياء في نفوسنا؟ هل الحياء خلق مكتسب أم موهوب؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد