بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أهل هو أن يعبد، وأهل هو أن يحمد، وأهل هو أن يشكر، فله الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق السماوات والأرض، وجعل الظٌّلمات والنور، وأشهد أنَّ نبينا وقائدنا وقدوتنا إلى الخير محمّد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه ما أظلم ليل وأشرق النهار، وعلى آله وصحابته الأبرار..
أمّا بعد:
فيقول الله- تعالى -: {ما هذه الحياة الدٌّنيا إلاَّ لهوٌ ولعبٌ وإنَّ الدَّار الآخرة لهي الحيوانُ لو كانوا يعلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وقال- تعالى -: {إنَّما مثَلُ الحياة الدٌّنيا كماءٍ, أنزلناه من السَّماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل الناس والأنعام حتّى إذا أخذت الأرض زُخرُفها وازَّيَّنت وظنَّ أهلُهَا أنَّهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لَّم تَغن بالأمس كذلك نُفصِّل الآيات لقومٍ, يتفكَّرون} [يونس: 24].
ولقد مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسوق والناس كنفيه (عن جانبيه)، فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: « أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ » قالوا: ما نحب أنَّه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: « أتحبون أنَّه لكم؟ » قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنَّه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: « فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم » [رواه مسلم].
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها، تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلكº لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من الناس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله- تعالى - والخوف منه- سبحانه -.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، أما الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، وتركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها، عندما سلَّ علي- رضي الله - تعالى - عنه- سيفه لقتل عدوه بصق ذلك العدو في وجه علي- رضي الله عنه- فما كان منه إلا أن عاد سيفه، فلما قيل له في ذلك، قال: خشيت أن أنتقم لنفسي.
فلله در أولئك الرجال الذين عرفوا لماذا خُلقوا، ومن أجل أي شيء وُجدوا. فأين ذكور اليوم من رجال الأمس؟ أولئك الرجال الذين رغبوا فيما عند الله - تعالى - والدار الآخرة، تركوا الدنيا في كامل زينتها وأبهى حلتها، وأقبلوا على ربهم- سبحانه - راجين مغفرته ورضوانه، تركوا الفاني وأقبلوا على الباقي، أتعلم لماذا؟ لأنّهم عرفوا الحق من الباطل، عرفوا ما ينفعهم وما يضرهم، قال- تعالى -: {من المُؤمنين رجالٌ صدقُوا ما عاهدوا الله عليه فمنهُم من قضى نحبَه ومنهُم مَّن ينتظر وما بدَّلُوا تبديلاً} [الأحزاب: 23]، أولئك الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله الذين عرفوا الله حق معرفته، فلم يخشوا أحداً إلا الله، والله أحق أن يُخشى، صدقوا مع الله فصدقهم الله- عز وجل -، إذا عملوا فلله، وإذا احبوا فلله، وإذا أبغضوا ففي الله، أعمالهم وأقوالهم خالصة لله دون سواه.
أمّا من ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وما يحصلون عليه من كراس، ومراتب، ودرجات، فكانت المفاجآت أن حلت بهم النكبات، ودارت عليهم الدائرات، وجعل الله بأسهم بينهم شديداً، فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يُبطنون، وإذا تفرَّقوا أكل بعضهم بعضاً، قال- تعالى -: {الأخلاء يومئذ بعضُهُم لبعض عدُوٌ إلا المُتَّقين} [الأحزاب: 67]، وما حصل كل ذلك إلا لبعدهم عن منهج الله القويم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، فضلٌّوا وغووا وركنوا إلى ما لم يؤمروا به، فاتبعوا الهوى والشهوات، وحصلت بينهم المنافسات على المناصب الكاذبات، فلا إله إلا الله رب الأرض والسماوات، كلٌ من أولئك يريد البقاء له وله وحده، وكأنَّه لم يُخلق إلا للبقاء والخلود في هذه الدنيا وعمارتها، والله- تعالى - يقول في محكم التنزيل: {كلٌّ نفسٍ, ذائقة الموت وإنَّما تُوَفَّونَ أُجوركم يوم القيامة فمن زُحزِح عن النار وأُدخِلَ الجنَّة فقد فاز وما الحياة الدٌّنيا إلاَّ متاع الغرور} [آل عمران: 185]، ويقول- تعالى - {وما جعلنا لبشرٍ, من قبلك الخلد أفإين مِّتَّ فهُمُ الخالدون. كُلٌّ نفسٍ, ذائقةُ الموت ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخير فتنةً وإلينا تُرجعون} [الأنبياء: 34- 35]، وقال - تعالى -: {وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبُدون} [الذاريات: 56]، وهذه هي- والله- الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده لا شريك له فهو- سبحانه - المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثيرٌ من الناس؟ وكل ماعدا العبادة فهو وسيلة لا غاية، وعجباً لمن بدَّل الغاية إلى وسيلة والوسيلة إلى غاية، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد انعكست المفاهيم، وانتكست الفطر عند أولئك الناس فاستحقوا قول الله- تعالى -: {أم تحسَبُ أنَّ أكثَرَهُم يَسمَعُون أو يعقلون إن هم إلاَّ كالأنعام بل هُم أَضَلٌّ سَبيلاً} [الفرقان: 44]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: « الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً » [رواه الترمذي وهو حديث حسن]، وقال- صلى الله عليه وسلم -: « لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء » [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي مبغوضة، ساقطة، لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين النَّاس أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله- تعالى - ملعون مبغوض عنده- سبحانه -.
قال- تعالى -: {اعلموا أنَّما الحياة الدٌّنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثُمَّ يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابٌ شديد ومغفرةٌ من الله ورضوان وما الحياة الدٌّنيا إلاَّ متاع الغُرُور} [الحديد: 20]، يحذر المولى- جل وعلا - عباده من الإنجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات إليها أو الإذعان إليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلَّت عنهº فهي حقيرة عند الله- عز وجل - كحقارة الميتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعبادº ليرى الصابر، والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه- سبحانه -، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله تبارك و- تعالى - أبداً قال- تعالى -: {فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير} [الشورى: 7]، وقال- تعالى -: {وما يستوي الأعمى والبصير. ولا الظٌّلُمَات ولا النٌّور. ولا الظلٌّ ولا الحرور. وما يستوي الأحياءُ ولا الأمواتُ} [فاطر: 19-22] الأعمى هو من ضل عن منهج الله- تعالى - وركن إلى الدنيا واطمأنَّ لأنَّه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قاله الله - عز وجل -: {فإنَّها لا تعمَى الأبصَار ولكن تعمى القُلُوبُ الَّتي في الصٌّدور} [الحج: 46]، وذلك لإعراضه عن ذكر الله- تعالى - فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموات موت كفر- والعياذ بالله-، قال- تعالى -: {ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى.
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشدٌّ وأبقى} [طه: 124-127]، وأمّا من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر العارف تمام المعرفة لم خُلق، وهذا حقٌ معلوم لا ينكره إلا جاهل أو فاقد عقل، قال - صلى الله عليه وسلم -: « أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم » [متفق عليه]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: « إن الدنيا حلوة خضرة وإنَّ الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء » [رواه مسلم]، وهذا تحذير آخر من نبي الرحمة والهدى لأمته من عدم الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها، وعدم الإنخراط في سلك اللاهين المحبين لها ولزخرفها وزينتها، والحذر كل الحذر من الإنجراف وراء مغريات الحياة الزائفة، وعدم الاهتمام بها أصلاً إلا لمن ابتغى بها وجه الله- تعالى - والدار الآخرة.
ولكن ومع كل هذه التحذيرات من رب الأرض والسموات ومن نبي الهدى والرحمات، لا نجد إلاَّ قلوباً ميتة، وعقولاً مسلوبة، لشغوف أهلها بحب الدنيا وبهرجتها الزائفة الزائلة، خربوا آخرتهم الباقية وعمَّروا دنياهم الفانية، تنافس كثير من الناس من أجل الدنيا، وتقاطعوا، وتدابروا من أجلها، فضاعت حقوق بعضهم بين بعض، فكم من ضعفاء ومساكين ضاع حقهم من أجل أن يأكله غني مستكف، وكم من صاحب حق ذهب حقه أدراج الرياح من أجل محاباة المسؤول لخصمه، وكم وكم نرى من خصومات وتعديات من أجل الصراع للبقاء على وجه هذه البسيطة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال- تعالى -: {يا أيٌّها النَّاس إنَّ وعدَ الله حقٌ فلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا ولا يغُرَّنَّكُم بالِله الغَرُور} [فاطر: 5]، لقد أصبحت الدنيا وعمارتها، والعيش فيها، وجمع الأموال، والأولاد، والأزواج، والكسب الحرام هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب الكثير من النَّاس اليوم، بل أصبحت الدٌّنيا هي همٌّهم الأول الذي خلقوا من أجله في اعتقادهم الفاسد الباطل، فانتشرت بينهم أمراض القلوب وأدواءه فها هو الحسد، والحقد، والكذب، والبغضاء، وها هي الغيبة، والنميمة، والكراهية، والشحناء، سادت بين أولئك الناسº بسبب حبهم للدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها، فأصبح العداء والولاء من أجل الدنيا، والحب والبغضاء من أجل الفناء.
فلا همٌّ لأولئك الأشرار إلا إزالة هذا عن منصبه ووضع ذاك، ونقل هذا والمجيء بالآخر، لأنَّ هذا من شيعته، وذاك من عدوه كما يزعم، وهذا قريبه ومن أبناء جلدته، وذاك غريبٌ لا يمت له بصلة، قال- تعالى -:{إنَّما المُؤمِنُون إخوَةٌ} [الحجرات: 10].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد