الدعاء سلاح المؤمنين وحصنهم الحصين


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله عرفه أوليائه بنعوت جلاله فأسبغ عليهم من واسع إنعامه وأفضاله ورأوا بعين بصائرهم في الكون صفات كماله وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله الواحد الأحد الفرد الصمد لا يحجب المخلوق عنه تسربله بسرباله ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله وهو ارحم بعبده من والدته الرفيقة به في حمله ورضاعه وفصاله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذاكر لربه في جميع أحواله خير من أكرمهم الله بإرساله صلى الله عليه وعلى أزواجه وصحبه وآله وسلم تسليما أما بعد:

 

فوصيتي لنفسي وأحبتي أن اتقوا الله، فمن أتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه، أيها المسلمون إن سلاحا أقوى من القنابل النووية والغواصات الذرية، يسقط الصواريخ الذكية، ويبطل مفعول الغازات الكيماوية، له مفاعلات خاصة ومعامل سرية، يستخدم هذا السلاح في حال الحروب والنكبات وإذا ادلهمت الخطوب و الكروب وألمت بالعالم الملمات، وكما انه سلاح حربي فهو أيضا سلاح سلمي يجلب الخيرات ويكشف الكربات ويزيد في الرزق ويرفع الدرجات، من مزايا هذا السلاح أن ليس له أعراض جانبيه ولا تكتشفه أجهزة التفتيش في المطارات ومن مزاياه أنه لا يشترى بالجنيهات ولا بالدولارات ولا يصنع في مصانع الأسلحة الشرقية ولا الغربية ولا يملكه إلا من آمن بفاطر الأرض والسماوات، انه السلاح المدمر لكل المصائب الجالب لكل المكاسب، المنصوص عليه في الكتاب والسنة المستخدم له كل من أراد النجاة من النار والفوز بالجنة أنه (الدعاء)، سلاح غفل عنه المسلمون وخاف من المشركون حين علموا شدة فتكه وقوة بطشه فهاهو عتبة بن ربيعه يأتي إلى الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فيعرض عليه الملك وأمورا أخرى ليغريه بترك ما هو عليه من دعوته إلى الله فيقرأ عليه الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فواتح سورة فصلت حتى إذا بلغ (فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أمسك عتبة بفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ناشدتك الله والرحم يعني أن لا تدعوا علينا، وهاهو الحبيب أيضا - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجئ بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه وابن مسعود - رضي الله عنه - ينظر لا يغني عنه شيئا فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض أي يتمايل بعضهم على بعض مرحا وبطرا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة - رضي الله عنها - فطرحته عن ظهره فرفع رأسه ثم قال: (اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم قال وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ثم سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم عليك بابي جهل وعليك بعتبة بن ربيعه وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط) وعد السابع فلم ٌيحفظ، قال ابن مسعود فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرعى في القليب أي قليب بدر.

 

عباد الله: استخدم هذا السلاح صفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، هاهو نوح - عليه السلام - يشهره بعد أن يأس من قومه وقيل له: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فقال: (رب إني مغلوب فانتصر) قال الله بعدها (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر... الآيات) وفي موقف منه - عليه السلام - بعد دعوته لقومه السنين الطوال ونصر الله له وإهلاكه من عاند وكفر يراجع ربه في ابنه بعاطفة الوالد الرحيم، كأنه أشكل عليه الإذن بحمل أهله معه في السفينة وعدم ركوب ابنه معهم فقال (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين) فيقال له: (إنه ليس من أهلك) وينهى عن السؤال عما ليس له به علم وينهى أن يكون من الجاهلين فيعلم - عليه السلام - انه سيهلك إلا أن يتداركه الله بعفوه، فيشهر السلاح المنجي من الهلكة (إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)، وهاهو آدم أبو البشر مع زوجه بعد أن وقعا في الذنب وبدت لهما سوءاتهما وُعنفا من الرب - تبارك وتعالى - يرفعان أكف الضراعة له - جل وعلا - بهذا الدعاء العجيب: (ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين)، تأمل مع أخي الحبيب كيف تواطأت دعوة الأخوين آدم ونوح عليهما السلام - إن الخسران في عدم الغفران من الكريم المنان - وهاهو الخليل - عليه السلام - يناجي ربه بعد أن نفذ أمره وجاء بزوجه وابنه وتركهما بين الجبال وحيدين بلا أنيس ولا جليس يناجي ربه بتلك الدعوات (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) وقال (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب).

 

أيها الأحبة إن الدعاء من أولى ما صرفت إليه الهمم وأحب ما أهتدي بأنواره في غياهب الظلم و هو أنفع ما استدرت به صنوف النعم واستدرئت به صنوف النقم، جنح إليه المرسلون والأنبياء والصالحون والأولياء فينبغي للمرء أن يتوخاه في كل مهم ويتحراه لكل خطب مدلهم وهو أمر من الله - تعالى - لكل مؤمن من اعرض عنه فمتوعد بنار جهنم (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال - جل وعلا -: (واسألوا الله من فضله) وثبت في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - إن الله - جل وعلا - ينزل في ثلث الليل الآخر (من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له) وأخبر عن معيته لمن دعاه قال في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني) وطلب من عباده أن يسألوه ويطلوبه كل حوائجهم ومراداتهم قال أيضا في الحديث القدسي (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون باليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم).

 

عباد الله: إن الدعاء هو العبادة لان فيه إظهار الافتقار إلى الله - تعالى - والتبرؤ من الحول والقوة إلا به وهو سمة العبودية وإقرار بذل البشرية، فيه ثناء على المولى وإقرار بفضله وكرمة وإقرار بأسمائه وصفاته، فالداعي يعلم أنه سميع قريب قدير مجيب وغير ذلك من صفات كماله - جل وعلا - وهو ما استشعره صفوة الخلق عليهم السلام فرموا حبالهم في بحره وأنشبوا في أرضه مرساتهم، قال زكريا - عليه السلام -: (رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا) إلى قوله (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) وتأمل كيف امتدح الله هؤلاء الصفوة من خلقه فقال: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) قال سفيان الثوري - رحمه الله -: رغبا بما عندنا ورهبا مما عندنا.

 

عباد الله: إن المتدبر كتاب ربه يظهر له بجلاء و بيان واضح أن الدعاء سمة الإنسان مهما كان مذهبه أو دينهº لأن الله فطره على الشعور بفقره والإقرار بعجزه فالإنسان وان طغى وتكبر وعلا وافسد فانه في حالات من الضعف يلجأ إلى الدعاء بل يدعو بإخلاص و يقين (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) (فإذا مس الإنسان ضر دعانا) (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) (وإذا غشيهم موج كالضلل دعوا الله مخلصين له الدين) وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر فالكافر ما أن يحصل له مراده ويزول عنه ما أهمه (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) (أعرض ونئا بجانبه) ونسي ما كان يدعو إليه من قبل)، أما المؤمن فيدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه، لافتقاره إليه في كل حالاته وجميع أوقاته، مستحضرا علو منزلة الدعاء وسمو مرتبته، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) أخرجه الترمذي.

 

أخوة الدين والعقيدة: إنه لما للدعاء من منزلة في الدين طلب من المسلم أن يكون له نصيب منه في كل وقت وحين، عند نومه و عند استيقاضه عند خروجه من منزله وعند ولوجه عند دخوله المسجد وعند خروجه منه عند أكله عند شربه إذا توضأ إذا صلي إذا دخل الخلاء إذا خرج منه إذا سافر إذا رجع من سفره إذا أصيب بمصيبة إذا رأى المطر أو السحاب إذا عطس إذا صنع إليه معروف إذا هاجت الريح وإذا أراد جماع أهله، وهذه جملة منها وتتبعها يطول، ولكن بها يتبين لأولي الألباب أن الدعاء من أعظم العبادات - بل هو العبادة وهو مخ العبادة - إذ به يتجلى إخلاص المرء وخشوعه واستسلامه ويقينه وتوحيده وبه يظهر مدى الصدق في قلبه وهو ترمومتر للتوحيد كما نقل عن شيخ الإسلام - رحمه الله - تعالى - قوله (إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك).

 

أيها المسلمون: نظرة في كتاب الله - تعالى - يدرك بها المرء سر من إعجازه وجزء من أسرار ترتيبه فهو مفتتح بالحمد المتضمنة للدعاء (دعاء ثناء ودعاء مسألة) ومختتم بالمعوذتين وهما من اشمل الدعاء والجمع بين فاتحة الكتاب وخاتمته هو ما بين دفتيه فكل ما بين الفاتحة والمعوذتين لا يمكن الإتيان به إلا بما تضمنتاه من الدعاء فلا بد من الاستعانة بالله على الهداية والاستعاذة به مما يعيق هذه الهداية أو يقف في طريقها أو يحجبها من انس وجان وإلا (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعائكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما).

 

فاتقوا الله عباد الله وارفعوا حوائجكم إلى الغني عنكم وادعوه واطرحوا بين يديه، مرغوا وجوهكم وجباهكم طلبا لمرضاته واعترافا بفقركم إليه وادعوه تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين.

 

أيها المسلمون: الدعاء يتم به عبادة القلب واللسان والجسد، فهو مستوجب لعبادة القلب قصدا ورجاء وتوكلا ورغبة ورهبة، ومستوجب عبادة اللسان لهجا بتمجيد الله وتحميده وتقديسه وتسبيحه والطلب منه والابتهال والتضرع إليه، ومستوجب عبادة البدن انكسار واستكانة وتذللا فالدعاء هو الدين قال - جل وعلا - (فادعوه مخلصين له الدين) وأخرج الإمام احمد من حديث أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا (من لم يدع الله يغضب عليه)، فالزموا الدعاء رحمني الله - تعالى - وإياكم أخذا بأسباب رفع البلاء ودفع الشقاء قال الخليل - عليه السلام - (وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) فلا يرد البلاء إلا الدعاء، به ترد البلايا والمحن ويستعصم المسلم من الشرور والفتن، تكشف بالدعاء المصائب والأخطار وتغفر الذنوب وتسدل الأستار وتستجلب النعم الظاهرة والباطنة، ويمكن للمرء في دينه ودنياه فلله ما أعظم شأن الدعاء وما أكثر ما يجلب من الخيرات ويرفع من النكبات وهو سلاح المؤمنين وحصنهم الحصين فتركه قدح في الدين وإعراض عن رب العالمين نعوذ بالله أن نكوم من الغافلين أو المعرضين.

 

أيها المسلمون: إذا ادلهم الخطب وعظم البلاء وتكالب الأعداء فعليكم بالدعاء مع الأخذ بالأسباب المشروعة متحرين في ذلك أوقات الإجابة كساعة الجمعة وبين الأذانين وأوقات السحر والأوقات المباركة كعشر ذي الحجة والأماكن المقدسة وغير ذلك فاتقوا الله عباد الله وليكن نصب أعينكم حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عند الترمذي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم – قال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر).

اللهم من أرادنا وبلادنا وديننا وأمننا ووحدتنا بسوء فاشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply