بسم الله الرحمن الرحيم
قد يتساءل البعض منا عن قيمة الكلمة في مواجهة أمواج الطغيان المتلاطمة على صخرة الإسلام اليوم، وقد يقول البعض الآخر: ما قيمة الكلمة وجراحات الأمة تثعب دماً، وما فائدة الكلمة ورصيد جراحات الأمة بازدياد، وسجل انتهاك العدو لها في تطاول؟
فبدايةً نقول إن جراحات الأمة وكلومها بل إن قتلاها وشهداءها ودماءها ليست أموراً مرادةً لذاتها، وإنما هي وسائل تعبير عن سمو الهدف ونُـبل الغاية، إنها ترجمةٌ لحقائق إيمانية تصدر عن نبع الحق، وحكايةٌ عن أروع نماذج العبودية لله - عز وجل -،وتعابير عن إفناء الأجساد في خضم رحلة السمو بالروح...
إن عروق هذه الأمة التي تثجٌّ بدماء التضحية والاستشهاد، وأشلاءها المبعثرة على وجه البسيطة في كل مكان، إنما تصدر عن قلبٍ, نبضه لا إله إلا الله وعن أمةٍ, لسانها لا إله إلا الله، وجوارحها تختلج بلا إله إلا الله، إنها أمةٌ عنوانها كما ترى كلمةُ لا إله إلا الله، ومن هنا تنطلق أهمية الكلمة...
إن استطالة الأعداء على ديار الإسلام وانتهاكهم لحرمات الإسلام حقيقةٌ لا ينكرها إلا غافل جاهل أو عميلٌ متواطئ مخذِّل، وليس الأول بأقل خطراً من الثاني، ولهذا كان لا بد من الكلمةº الكلمة التي تنبه الغافل وتعلِّم الجاهل، الكلمة التي تفضح المنافق وتُشهِّر بالمخذِّل المتخاذل، الكلمة التي تستنهض الأمة لإعلان النفير فتشن الغارة على عدو الداخل بنفس الشدة التي تشنها على عدو الخارج، الكلمة التي تعلن هوية الصراع وتجلّي الراية، وتدك أرجاء الكون بلا إله إلا الله، وهل يكون هذا الاستنهاض إلا بالكلمة، قال - تعالى -:\"فاصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين\"(الحجر 94)
وأقول إن الغاية من تقرير أهمية الكلمة في هذا المقام ليست الاقتصار عليها أو تحجيم الصراع بمجرد التمتمة بها أبداً، بل الغاية من الكلمة أن تكون عنواناً وهويةً وانطلاقاً لكل ما سواها من تضحياتٍ, عملية في سياق معركة العقيدة التي نعيش اليوم، إن الغاية من إعلان الكلمة أن تكون الفيصل بين جند الحق وجند الباطل، بين أسرى الحق وأسرى الباطل، بين قتلى الحق وقتلى الباطل...
إن الكلمة هي عنوان الإسلام، بل هي عنوان الإيمان، تأمل معي كيف كان أبو طالب مقراً بأفضلية دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يعلن بكلمة التوحيد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو طالب على فراش موته:\"يا عمِّ قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله\"(صحيح البخاري)، ولكنه لم يقلها، فمات حين مات وهو كافرٌ، أرأيت إلى الفيصل بين موتٍ, على الحق وموتٍ, على الباطل، إنها الكلمة...
والكلمة هي عصمة الدماء والأموال والأبضاع، تأمل معي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:\"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله\"(صحيح البخاري)، فبكلمة التوحيد تعصم الدماء وتحترم الأموال، وبالقتال والغنيمة والسبي تُستحل الدماء والأموال والأبضاع التي أبت الخضوع لخالقها بإسلام أو جزية،
وإذا قرأت قول الله - تعالى -:\"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا\"(النساء 94) علمت أن الفيصل في ذلك كله قول لا إله إلا الله، وعلمت أن الفيصل في ذلك كله هو الكلمة...
والكلمة هي ميراث النبوة، فالأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذه الأمانة العظيمة التي ثقلت على السموات والأرض والجبال، تأمل معي قول الله - تعالى - عن أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -:\"وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين، وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون\"(الزخرف 26-28)، فهذا هو ميراث النبوة وهذا ميراث أبي الأنبياءº إنها الكلمة...
والكلمة هي عنوان العيش الطيب، وهل يطيب عيشٌ في هذه الدنيا إلا في ظل لا إله إلا الله،وقد قال - تعالى - في هذه الكلمة:\"ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرةٍ, طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون\"(إبراهيم 24-25)، وإن أثر هذه الكلمة الطيبة لَيمتد إلى البرزخ والحياة الآخرة حيث يكون التثبيت من الله - تعالى - لعباده المؤمنين بها،
تأمل معي قوله - سبحانه و تعالى -:\"يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء\"(إبراهيم 27)، ترى ما الفرق بين ذلك المؤمن الثابت المؤيَّد في الدارين وبين من حالُه كما وصف الله - تعالى -:\"ومثلُ كلمةٍ, خبيثة كشجرةٍ, خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار\"(إبراهيم 26)، أليس الفرق بينهما هو هذه الكلمة...
والكلمة هي تعبير العبد الغيور عن غضبه حين تُـنتهك حرمات ربه فيشتد لسانه بالنكير على من سولت له نفسه التجرؤ على محارم الله وحدوده، إن الكلمة هي الفارق بين ذلك العبد الغيور وبين ذلك الشيطان الأخرس الصامت الذي قد يتلبَّس بنسكٍ, وعبادة ولكنه لا يبالي بالغضب والنكير على صاحب منكر ولو بكلمة طالما سلِمت له معايشه ورياسته وأمواله ودنياه،
إن الكلمة هي الفارق بين ذاك الأخرس وبين ذاك الذي يلبي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -:\"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان\"، نعم إنها الكلمة...
والكلمة هي الفيصل بين الحلال والحرام، بين الطيب والخبيث ولو أعجبك كثرة الخبيث، ألم تر إلى وفرة أسباب المجون والزنا واللواط والخنا في جنبات مجتمعات اليوم، ألم تعلم أن الفيصل بين ذلك الخبيث المحرَّم وبين الحلال الطاهر الطيب كلمةº أليس تملك بِضع زوجِك وتستحل هي بضعَك بزوَّجتُكَ وقَبِلتُ، وهل عقد الزواج هذا إلا كلمة...
وقد يستخف البعض بالكلمة فيهوي بذلك في أودية الردى والهلاك، في حين يجتهد غيره في العمل بالكلمة فيسعد بها، فها هو الرجل يشرب الخمر مراراً وتكراراً فلا يخرج بذلك عن كونه فاسقاً، في حين أن من لم يطعمها ولو مرةً في حياته يكفر لو استحل الخمر بكلمة! وها هو الرجل لا يبالي ما يزلٌّ به لسانه من كلمات فإذا بها تكبّه على وجهه في نار جهنم، وغيره يتكلم بكلمات يرتقي بها درجات الجنة، وصدق المعصوم - صلى الله عليه وسلم - إذ قال:\"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم\"(صحيح البخاري)، وإنما هي كلمة...
والكلمة هي منهج المسلم في حياته وخطة المسير في رحلته، قال - صلى الله عليه وسلم -:\"قل ربي الله ثم استقم\"(الترمذي)،والكلمة هي طريق توبته عند الزلل قال - تعالى -:\"فتلقى آدم من ربه كلماتٍ, فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم\"(البقرة 37)، والكلمة هي بريد الداعية إلى الله وعنوان رسل الله - سبحانه و تعالى - إلى الحق، قال - تعالى -:\"ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين\"(فصلت 33)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:\"بلغوا عني ولو آية\"(صحيح البخاري)، وإنما طريق ذلك كله الكلمة...
وبعد، فإن الكلمة هي التي ميّزت الناس إلى مؤمن وكافر، وإلى برٍ, وفاجر، إلى شقيٍ, وسعيد، وإلى مقبولٍ, وطريد، إلى صالحٍ, وطالح، إلى خاسرٍ, ورابح، حتى حطت رحال الناس فريقٌ في الجنة وفريق في السعير...
وإن الكلمة هي التي تفرق لأجلها الأهلون وشُرِّد العباد، وذرفت لأجلها دموع الثكالى وتيتم الأولاد، وإن الكلمة هي التي شرعت لأجلها سيوف الجهاد، فكان سيف الجهاد مشرّعاً أبداً فهو إلى يوم القيامة ماض، ولأجل الكلمة كانت الرماح والأسنة، لأجل قمع البدعة وإظهار السنّة، ولأجل الكلمة أريقت الدماء، ولأجلها نزلت الملائكة من السماء، لأجل الكلمة كانت بدر وأحد والخندق وتبوك،
ولأجلها كانت القادسية وكانت اليرموك، ولأجل الكلمة كانت عين جالوت وحطين، ولأجل الكلمة ستبقى كتائب الاستشهاديين، ستبقى لتسقط كلمة الكفر تحت أقدام المجاهدين، فقد جعل الله كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمةُ الله هي العليا إلى يوم الدين، وهذه هي قيمة الكلمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد