مصيبة الموت


 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله الحي الذي لا يموت وأشهد أن لا اله إلا الله له الملك والجبروت وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لو كان أحد خالدا لما ذاق مرارة الموت ولكنه القضاء والقدر والحق من المتفرد بالأمر والملكوت فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليما.

 

أيها المسلمون: كل منا على يقين انه سيلاقي ربه يوما ومواجها أمرا خطيرا وخطبا فضيعا سماه خالقه (مصيبة) ويا لها من مصيبة تهدم اللذات وتقطع الراحات وتفرق الجماعات تنزل بالواحد منا فتذهب رونقه وبهائه وتغير مظهره وحسنه تمحو صورته وجماله، ننفر منها ويتشاءم الكثيرون من ذكرها، ولكنهم مهما غفلوا عنها أو تغافلوا، ومها شغلوا عنها أو تشاغلوا فإنها منهم قريبة جدا، مهما ظننا أنها بعيدة المدى، فكل يوم يمضي يدنينا منها يوما، وكل ساعة تنقضي تقربنا منها ساعة، حتى نواجه الأمر كأن لم نعش يوما، وكأن لم نصح يوما، ولم نسعد يوما، ولم نضحك يوما (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد).

 

أيها المسلمون كم من نفس في ساعتنا هذه تحتضر، وكم من جسد مسجى للصلاة عليه ينتظر، وكم من جسد في ساعتنا هذه يحثى علية التراب ليستتر، يتمنى أن يعود إلى الدنيا ليسلم إن كان كافرا وليتوب إن كان عاصيا، يحمله المقربون منه ليدفونه ويبكونه ساعة ثم على تركته يتخاصمون ولأمواله يقتسمون ولزوجه ينكحون ولداره يسكنون، فيا عجبا لمن يأمل الدنيا أو يركن إليها وهو يرى القبر حفرة قريبة أنحاءها مظلمة أرجاءها ويرى الميت وقد أحكم عليه بطينها وبأحجارها وأصبح الطعام بهوامها وديدانها قال بعضهم: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم فاطلبوا نعيما لا تنغيص فيه.

 

وليت الأمر يقتصر على الموت لهانت المصيبة، ولكن المصيبة فيما بعد الموت وبعده البعث والحساب في يوم تدهش فيه الألباب ويتناكر فيه الأحباب وهذه آمالنا تطوى وأعمارنا تفنى وليلنا ونهارنا يقربان كل بعيد ويفنيان كل جديد، ألا وإن الموت يا عباد الله آت إليكم ولن يمنعه منكم مانع وان عذاب الله إذا وقع فما له من دافع، فكفى للموت زاجرا للبيب وشاكيا للأريب، نزل الموت بابن المنكدر - رحمه الله تعالى - ، فبكى فقيل ما يبكيك فقال: والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبا حسبته هينا وهو عند الله عظيم. فيا لله كم من جبار طويل النجاد رفيع العماد عضيم الأجناد كثير الإمداد وصل من دنياه إلى ما أراد قعد ونهض وأبرم ونقض وجعل أمره المفترض طالما حرق وهدم وكسر وحطم وزلزل ودمدم واسترحم فلم يرحم ومضى على ما شاء من أمره وصمم، بنى المدائن والحصون وأكثر من ماله المخزون أطال المرح والسرور وزخرف الفلل والقصور، إذ هو بالمنية تصيح به صيحة الغضبان وتصدمه صدمة اللهفان، فهدمت أركا نه وكسرت أغصانه وفرقت أنصاره وأعوانه  الويل كل الويل لمن كانت الدنيا أمله والخطايا عمله، الويل كل الويل لمن كان عالما بأمر دنياه جاهلا بأمر آخرته الويل كل الويل لمن كان يجزع إذا قل ماله أو نقص وما فطن لما من عمره ينتقص.

 

أيها المسلمون: إن الحياة الدنيا مهما امتدت ومهما طالت ومهما صفت فمصيرها إلى الزوال وان هي إلا أعوام وتنقضي وربما كانت أياما أو ساعات وكم هي لبعض الناس بضع لحظات، فيصبح المرء بعدها في حفرة وحيدا ليس معه الأولاد ولا الأموال ولا الزوجات ولا خليل يناديه كأن لم يرى الدنيا ولم تره – هذا إذا كانت الدنيا التي عاشها صافية له ونقية كيف وقد ملئت الدنيا بالمشكلات والمنغصات كم مر بنا من خير ومسرات كم ضحكنا كم بكينا كم صححنا كم سقمنا كم عوفينا – تقلبات مرت بنا كأن لم تكن

 

– قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده – وقال سعيد بن جبير - رحمه الله -: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد – وقال الحسن البصري - رضي الله عنه -: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا.

 

إن لحظة المشكلة في حياة الإنسان هي لحظة الموت وساعة الاحتضار ولابد له من أن يراها (كل نفس ذائقة الموت) كم تغافل الناس عن هذه اللحظات يجفلون منها ومن ذكرها يظنون أنهم بهذا يفرون منها (قل إن الموت الذي تفرون منها فانه ملاقيكم).

 

نعم عباد الله تلك لحظة الحسم في حياة كل إنسان مهما عظمت مكانته ومهما علت منزلته فالكل في تلك اللحظة سواء وإنما يتفاوت الناس حسب تقواهم فيا من غره طول الأمل يا من قصر عن العمل فاستعد ليوم الرحيل فانك عما قريب ستلاقيه، نغفل عنه في الحياة وهو خاتمة الحياة قد كان بالأمس ينعى وهاهو اليوم ٌينعى ألا عباد الله فاستعدوا ليوم التغابن فاليوم تنتزعون آخر ورقة في التقويم وغدا ينتزع ملك الموت آخر نفس من تقويم حياتكم فمثِل عمرك بتقويم سنه أما تراه سميكا ثقيلا فما يلبث صاحبه ينزع منه كل يوم ورقة ويرميها حتى يدنو من آخر ورقاته فما أشبه هذا بهذا فتخيل نفسك وملك الموت واقف ينتظر الأمر بنزع ورقتك الأخيرة فما أعظم مصيبتك إن كنت ممن فرط في جنب الله وكان من الساخرين وما أسعدك إن كنت ممن قال ربنا الله ثم استقام وليست المسألة بعيدة ربما كانت أقرب إليك مما تتصور، فكم من مصل للظهر ما أدرك العصر إلا في الدار الآخرة فخذوا حذركم ويا إخوان الغفلة تيقضوا ويا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعضوا فوالله ليس هناك ممن هو أسوأ حالا ممن استعبده هواه وليس هناك أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه ولكنها الغفلة التي شملت قلبه والجهل الذي ستر عنه عيبه كأنه لا يرى صوارم الموت بين الناس واقعة وقوارعه بهم واقعة وفجائعه للعذر قاطعة.

 

ألا فاعلموا أيها الغافلون أن سهام الموت فيكم نافذة وأحكامه بنواصيكم آخذه فحتى ما والى ما هذا التخلف عن التقوى علامة – إن كنت تطمع في البقاء إلى الأبد فليس ذلك والله إلا للواحد الصمد. والموت لك بالرصد وقد وعظك واعظه بموت الوالد والولد، فجدوا رحمكم الله في خدمة مولاكم وأقلعوا عن الذنوب عسى أن يتولاكم واعلموا أنكم غدا بين يدي الجبار موقوفون و عن ما عملتم في دنياكم مسئولون فخذوا حذركم وقدموا عذركم واعلموا انه لن ينفع في يوم القيامة حول ولا قوة ولكنه الإيمان وإتباع منهج النبوة وتزودوا فان خير الزاد التقوى وصلوا على شفيعكم ومن كان بكم رؤوفا رحيما إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply