بسم الله الرحمن الرحيم
1- طلب الإعانة من الله:
إذا كانت العبودية لله غايةُ العبدِ ونهاية مُرادهِ تَوجَّه إلى اللهِ أن يُعينَه عليها، ويُوَفِّقَهُ للقيامِ بحقِّها، ولهذا كان مِن أفضل ما يسأل الله - عز وجل -: الإعانة على مرضاته، ولذلك علَّم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حِبَّهُ معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، فقال: «يا معاذ! والله إنِّي لأُحبٌّكَ، فلا تنسَ أن تقولَ في دُبر كلِّ صلاة: اللهمَّ أعنّي على ذِكرِكَ، وشُكركَ، وحُسنِ عبادَتِكَ»([1]).
واعلم أيَّها العبدُ إذا التزمت عُبوديته، ودخلتَ تحتَها أعانك عليها، فكان دُخُولكَ فيها سَبَباً لنيلِ الإعانةِ عليها، وكلَّما كان العبدُ أتَمَّ عُبوديةً كانت الإعانةُ من اللهِ له أعظم.
والعبودية محفوفةٌ بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدَها على الثّبات عليها والقيامِ بعبودية غيرها، وهكذا أبداً ما دُمت لله عبداً.
ومَن تدبر هذا المقام وجدَه أنفع الدّعاء بل إنَّ مدار الدّعاء المأثور عليه، وهو مُراد الله في أم الكتاب. {إِيَّاكَ نَعبُدُ وإِيَّاكَ نَستَعِينُ}.
2- الاصطبَارُ على العُبوديّة:
يا قَوم مَن كانت غايتُهُ لله كانت همَّتُه عالية فهو يَحشُدُ همَّه، ويُعبّئ طاقاته، ويُجرِّدُ نفسَهº ليَرتقي إلى مقامِ المُثول بين يَدَي معبودِه بحقٍّ, الّذي يُحبٌّه ويخضَعُ له، ويُعالجٌ عَثَرَات الطَّريقº ليثبُت في هذا المُرتَقى العالي... إنَّها مشقَّةٌ: مشقَّة التَّجمٌّع والحَشدِ والتَّجرٌّد من كلِّ شاغلٍ,... وإنَّها للذَّة لا يعرِفها إلا مَن ذاق طَعمَها ووجد حلاوتها... ولكن لا تنالُ إلا بمشقّة... فإذا تجاوزَت تِلكَ المشقَّة منحتك عطرها فتنسّمت عرفها، وكنت من أهلها.
قال الله - تعالى -: {فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ}. [مريم: 65].
وقال - تعالى -: {وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا}. [طـه: 132].
والعبودية في الإسلام تَنتظِمُ كُلَّ نشاط، وكلّ حركة، وكلَّ خلجةٍ,، وكلَّ نيَّة، وكلَّ اتّجاه... وإنَّها لمشقَّة أن يتَّجه العبدُ في هذا كلّه إلى الله وحدهُ دون غيره... مَشَقَّة تحتاج إلى اصطبار... وطريقٌ يحتاج إلى مُجَاهدةٍ,، ليَخلُص القلبُ مِن أوشاب الهوى، ونزغات الشيطان والنَّفس من شرورها... ولكن مَن زرع الإخلاص حصدَ النَّجاة، ومن بذَر الاتباع جَنى السَّداد في القول والعملِ، ومَن حَفظَ اللهَ - حفظه الله -ووجَده تُجاهه.
قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ}. [العنكبوت:69].
ولهذا المقام يُشيرُ الرَّسول - عليه الصلاة والسلام -: «حُجبت النّار بالشَّهواتِ، وحُجبت الجنّة بالمكارِه»([2]).
فالجنَّةُ محجوبةٌ بالمكارهِ محفوفةٌ بهاº والمكاره ما أُمر المُكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فِعلاً وتركاً كالإتيان بالعبادات على وجهها، واجتناب المنهيَّاتِ قولاً وفعلاً، وأُطلق عليها المكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ولكن عاقِبتَها أحلى من العسل، وله در القائل:
لا تحسبنَّ المجد تمراً أنتَ آكلُه *** لن تبلغ المَجد حتى تلعق الصَّبرا
وصدق القائل:
والصَّبرُ مُرُّ مذاقُه كاسمِه *** لكن عواقِبه أحلى مِنَ العسل
3- مًراقبة الله:
وهذا مَقَام الإحسان وإليه أشارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل الطَّويل عندما سأله عن الإحسان قال: «أن تعبُد اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراهº فإنه يراك».
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله-: «يُشير إلى أنَّ العبدَ يَعبُدُ الله - تعالى - على هذه الصّفة، هو استحضار قُربه، وأنَّه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجِب الخشية والخوفَ والهيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: أن تخش الله كأنَّك تراه».
ويجب - أيضاً- النٌّصح في العبادة وبذل الجُهد في تحسينها وإنمائها وإكمالها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن لم تكن تراهº فإنَّه يراك»º قيل: إنِّه تعليل للأوَّل، فإن العبد إذا أُمر بمراقبة اللهِ - تعالى - في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأنّ العبد يراه، فإنه قد يشقٌّ ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بانَّ الله يراه ويطَّلع على سِرِّه وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا تحقَّقَ هذا المقامُº سهل عليه الانتقالُ إلى المقام الثاني، وهو: دوام التَّحقيق بالبصيرة إلى قُرب الله من عبده ومعيّته حتى كأنّه يراه»([3]) أ.هـ.
قال ابن قيِّم الجوزيِّة - رحمه الله-: «فصاحبُ هذا المقام: كأنَّه يرى ربَّه – سبحانه - فوق سماواته على عرشه، مُطّلعاً على عباده، ناظراً إليهم، يسمع كلامَهُم، ويرى ظواهرهم وبواطنهم.
وكأنَّه يسمعه هو يتكلَّم بالوحي، ويُكلِّم بِه عبده جبريل، ويأمره وينهاه بما يُريد، ويدبِّر أمر المملكة، وأملاكه صاعدةٌ إليه بالأمر، نازلةُ مِن عنده به.
وكأنّه يُشاهدُه وهو يَرضى ويغضب، ويحبٌّ ويبغض، ويُعطي ويمنع، ويضحك ويفرح، ويُثني على أوليائهِ بين ملائكته، ويذُمٌّ أعداءَه.
وكأنّه يُشاهدُه ويشاهد يَدَيه الكريمتين، وقد قبضت إحداهما السَّماوات السَّبع، والأخرى الأرضين السَّبع، وقد طوى السَّماوات السَّبع بيمينه، كما يُطوى السِّجل على أسطر الكتاب.
وكأنَّه يُشاهده وقد جاء لفصل القَضَاء بين عباده، فأشرقت الأرض بنُوره، ونادى - وهو مستوٍ, على عرشه- بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمعه مَن قرب: «وعزَّتي وجلالي لا يُجاوزني اليوم ظلم ظالم».
وكأنّه يسمع نِداءَه لآدم: «يا آدم قم فابعث بعث النَّار»، بإذنه الآن، وكذلك نداءَهُ لأهل الموقف: {مَاذَا أَجَبتُمُ المُرسَلِينَ} [القصص: 65] وماذا كنتم تعبدون؟
وبالجملة فيشاهد بقلبه ربّا عرّفت به الرٌّسل، كما عرّفت به الكتب، وديناً دعت إليه الرٌّسُلُ، وحقائق أخبرت بها الرٌّسل، فقام شاهدُ ذلك بقلبه، كما قام شاهد ما أخبر به أهل التَّواتر- وإن لم يره- من البلاد والوقائع، فهذا إيمانُه يجري مجرى العيان، وإيمانُ غيره فمحضُ تقليد العُميان»([4]).
وقد انتظم مفردات تحقيق العبودية توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لربيعة بن كعب الأسلميِّ خادمه وهو مِن أهل الصٌّفَّة حيثُ قال: كُنتُ أبيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضُوئه وحاجته فقال: «سلني».
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة.
فقال: «أو غَيرَ ذلك؟».
قلت: هو ذَاك.
قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السٌّجود»([5]).
وبيانُ ذلك:
أ) أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُعينه على نفسه، ومَن أعان على نفسه لا شكَّ أنَّ أوَّل ما يطلب الإعانة مِنَ الله على نفسه فمن الدٌّعاء المأثور: ولا تكلني إلى نفسي طرفة عَين، فالعبدُ بحاجةٍ, إلى عونِ الله على نفسه التي بين جنبيه.
ولله در القائلِ:
إذا لم يَكن منَ اللهِ عونُ الفتى *** فأوّل ما يجني عليه اجتهاده
ب) قوله: «على نفسك» فيه بيان أنَّها مُختلّقة بطبعها عن السَّعي إلى المعالي، فلذلك فهي بحاجةٍ, إلى مُجاهدةٍ, واصطبارٍ, على العبادة كي لا تتخلَّف عن قافلة العابدين.
ت) قوله: «بكثرة السٌّجود»، فمن كثرة سُجوده حصلت له مرتبة القرب المُشار إليه بقول الله - تعالى -: {وَاسجُد وَاقتَرِب}. [العلق:19].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقرب ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد فأكثروا الدٌّعاء»([6]).
وعن عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأمّا الرٌّكوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ، وأمّا السٌّجود فاجتهدوا في الدٌّعاء فقمن([7]) أن يُستجاب»([8]).
فالسٌّجود من مواطن إجابة الدٌّعاء([9])º فدلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مواطن الإجابة، وأمره أن يُدمن قرع الباب، وعلَّمه كيف يقرع الباب، فمن كانت هذه صفتُه أوشك أن يُفتح له، والله المستعان.
ـــــــــــــــــ
([1]) صحيح كما بينته في «صحيح كتاب الأذكار وضعيفه» (891/ 675).
([2])أخرجه البخاري (11/320 – فتح)، ومسلم (2823) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بلفظ: «حُفَّت...» الحديث.
([3])«إيقاظ الهمم المُنتقى مِن جامع العلوم والحكم» (ص71-72) بتحقيقي.
([4]) «مدارج السالكين» (3/153-154).
([5]) أخرجه مسلم (489).
([6]) أخرجه مسلم (482).
([7]) أي: جدير وحقيق..
([8]) أخرجه مسلم (485).
([9]) وانظر لزاماً كتابي: «النٌّبذ المستطابة في الدَّعوات المستجابة» (ص56).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد