بسم الله الرحمن الرحيم
منذ صغري ويلفت انتباهي هذا الرابط الذي ربطه الله - تعالى - بين الإيمان والعمل الصالح في معظم الآيات التي ورد فيها الإيمان أو العمل، ما سبب ذلك؟ ولماذا؟
الإيمان والعمل الصالح:
توقفت أمام كتاب الله - تعالى -، أدرسه، وأستلهم منه معنى\"وعملوا الصالحات\"، وسبب ربطه غالبًا بـ\"الذين آمنوا\"، فوجدته يقسم علاقة الإيمان بالعمل الصالح إلى قسمين: القسم الأول يتحدث عن الجزاء، والقسم الثاني يربط هذا بفعلٍ, ما.
ومن أمثلة القسم الأول:
قول الله - تعالى -: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَةٍ, رِّزقاً قَالُوا هَـذَا الَّذِي رُزِقنَا مِن قَبلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُم فِيهَا أَزوَاجٌ مٌّطَهَّرَةٌ وَهُم فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 25).
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعدَ اللّهِ حَقًّا وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (النساء: 122).
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُم فِيهَا أَزوَاجٌ مٌّطَهَّرَةٌ وَنُدخِلُهُم ظِـلاًّ ظَلِيلاً} (النساء: 57).
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم وَاللٌّهُ لاَ يُحِبٌّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 57).
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُم فِي رَوضَةٍ, يُحبَرُونَ} (الروم: 15).
{وَمَن يَأتِهِ مُؤمِناً قَد عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى} (طه: 75).
ومن أمثلة القسم الثاني:
- الارتباط بإقامة الشعائر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ} (البقرة:277).
- الارتباط بالتقوى والإحسان: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحسَنُوا وَاللّهُ يُحِبٌّ المُحسِنِينَ} (المائدة:93).
- الارتباط بالتوبة وبالإخبات لله - تعالى -: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ, وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} (الفرقان: 70-71).
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخبَتُوا إِلَى رَبِّهِم أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ} (هود: 23).
- الارتباط بالاستخلاف والتمكين في الأرض: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يَعبُدُونَنِي لَا يُشرِكُونَ بِي شَيئاً وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور:55).
- الارتباط بالذكر وبالانتصار من الظلم: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ, يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:227).
- الارتباط بالصبر وبالتواصي بالحق: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَأَجرٌ كَبِيرٌ} (هود:11).
{وَالعَصرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ, * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ} (العصر:1-3).
- الارتباط بالإصلاح: {أَم نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِي الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ} (ص:28).
- ويلحق بكل ذلك الآيات التي ربطت العمل بالمسئولية والواجب والثواب، مثل:
{ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ فِي الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ} (يونس:14)
{وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ} (الأعراف:129)
{وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ} (التوبة:105).
{مَن عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} (النحل:97).
{إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ} (فاطر:10).
ويعرِّف\"الصلاح\"الإمام ابن منظور في كتابه\"لسان العرب\"فيقول:\"الصلاح ضد الفساد\"، وفي المعجم الوسيط:\"الصلاح الاستقامة والسلامة من العيب\".
فمن آيات القسم الثاني، ومن معنى الصلاح في اللغة يظهر لنا معنى العمل الصالح، وعلاقته بالإيمان:
فالإسلام دين يبحث عن العمل ويدفع الإنسان دفعًا إليه، معتبرًا العمل من الإيمان، وبدون العمل فلا إيمان، وصدق الحسن - رضي الله عنه - حين قال:\"ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدَّقه العمل\".
العمل.. بين الدين والدنيا:
وهذا العمل الصالح يشمل كلَّ عملٍ, يؤديه الإنسان دينيًّا كان هذا العمل أو دنيويًّا، طالما قصد به وجه الله، ونفع الناس أو دفع الأذى عنهم، فكل عملٍ, فيه صلاحٌ لنفسك، وتهذيبٌ لها، أو إصلاح يتعدى إلى غيرك فهو عمل صالح.
وهكذا يتبين اتساع فلك العمل الصالح وعدم حصره في عبادات معينةº فالأعمال الصالحة مشارب عدة نستطيع الورود فيها من خلال معايشتنا لحياتنا اليومية، سواء في وظائفنا أو في بيوتنا أو في أحيائنا، ومن خلال هذه المعرفة تزيد عند الفرد روح المشاركة والدخول في هذا الميدان لأنه ليس محدودًا بأشخاصٍ, حازوا قصب السبق في مجالٍ, معينº فالمجالات رحبةٌ واسعةٌ لا حدود لها ولا سبق فيها.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: \"قد يكون هناك خللٌ في عمل الصالحات، والصالحات ليست الصلاة والصوم والـ كذا فقط، الصالحات أن تُعدَّ لكل أمرٍ, عدته، وأن تراعي ظروف العصر، وأن تجتهد للأمور قبل وقوعها، وأن تُعدَّ لأعدائك ما استطعت.. ما استطعت من قوةٍ,، وأن تأخذ الحكمة من أيِّ وعاءٍ, خرجت\".
وهذه الأعمال الصالحة الواسعة الشاملة تكون بالفعل وبالكفِّ، بالفعل عبر فعل الخيرات بأنواعها، وبالكفِّ عبر كفِّ الشرِّ عن الناس. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال:\"إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله\"، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال:\"أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها\"، قلت: فإن لم أفعل؟ قال:\"تُعِين صانعًا، أو تصنع لأخرق\"، قال: فإن لم أفعل؟ قال:\"تدع الناس من الشر، فإنها صدقةٌ تصدق بها على نفسك\".
وهذه كلها أعمالٌ يمكن تسميتها أعمالاً دنيويةً لا دينية، كما قال الله - تعالى -: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فِيهَا} (هود:61)، أي طلب منكم أن تعمروها، وما دام قد طلب الإعمار فقد نفى الإفساد، فلا نعمد إلى الصالح بذاته فنفسده، كما علينا أن نوجه كل الطاقة لإصلاح الأرض، فكأن العمل الصالح هو:
- نهيٌ عن إفساد العمل الصالح ذاته.
- إيجاب العمل على الإصلاح والإعمار وتطوير كل ذلك والإبداع فيه.
ولعل هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: {مَن عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} (النحل:97).
فالحياة الطيبة هنا ليست عبر رضاء الله - تعالى - فقط، بل وعبر إعمار الدنيا والإبداع في جعلها هنيئةً طيبة.
خير الأعمال أنسبها:
وعلينا أن نعلم أن خير العمل هو ما كان الأنسب للشخص، وما كان الأفضل في وقته، وللإمام ابن القيم - رحمه الله - تعالى - قاعدتان ذهبيتان في هذا:
القاعدة الأولى: \"الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعةً وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالِم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر، مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح\".
فـ(كلُّ ميسَّرٌ لما خُلِق له) كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته.
القاعدة الثانية: \"أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، ومن قام بهذا فهو من أهل التعبد المطلق وهم أفضل من أهل التعبد المقيد\".
فلنعد ترتيب أولوياتنا طبقًا لترتيب ديننا.
أعجب كثيرًا من مسلمين تركوا العدو على أبوابهم يوشك أن يدخل وتفرغوا للتناحر والتشاحن والخلاف فيما بينهم، وأستغرب من مسلمين يتقهقرون إلى الوراءº بينما العالَم كلٌّه يسير للأمام، وأستنكر على علماء أفاضل لا يعرفون من شأن دنياهم شيئًا، ففتاواهم لقرونٍ, مضت، وكتاباتهم ومؤلفاتهم لأناسٍ, انقرضوا، وليس لهم من حياتهم اليوم إلا ذلك النفَس الذي يدخل ويخرج!
ابحث عن العمل.. وأتقنه:
فابحث لنفسك أيها المسلم عن عملٍ, هو لك، تكون رقعته واسعةً، وأمده طويلاً، وتأثيره عميقًا، وإياك أن توقفك الصعاب، فإن قيمة العمل تزداد إذا كثرَت المعوِّقات في سبيله، هذا العمل دونه عقبة، وذاك العمل أمامه عقبة، وهذا العمل فيه مسئولية، وذاك العمل متعب، وهذا العمل له مضاعفات، كلما كثرت المعوِّقات في سبيله، زادت قيمته، وكلما كثرت الصوارف عنه زادت درجته.
وتذكر أن\"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل\"(حديث متفقٌ عليه)، وأعظمها العمل المستمر بعد الموت:\"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له\"(حديث رواه مسلم).
وما دام ديننا قد حثَّ على العمل الأنسب للشخص وللزمان، فقد أوجب إتقانه، قال - تعالى -: {ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ فِي الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ} (يونس:14)، وقال سبحانه: {وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ} (الأعراف:129). ويلاحظ أن الله - تعالى - استعمل لفظة\"كيف\"ولم يقل\"كم\"تعملونº لأن الأهم هو نوعية العمل وأبعاده الحضارية وليس كميته.
العمل الصالح ثمرة كل شيء
\"وعملوا الصالحات\"هذه الكلمة التي اقترنت بالذين آمنوا في معظم آيات القرآن الكريم إنما جاءت لتحقق معنى واضحًا هو أن العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، الإيمان حقيقةٌ إيجابية وليست سلبية، حقيقةٌ متحرِّكةٌ وليست جامدة، فإن لم يتحرَّك المؤمن هذه الحركة الطبيعية، فهذا الإيمان مزيَّف، بل ميتº لأن الإيمان ليس انكماشًا، ولا سلبيةً، ولا انزواءً، وليس مجرد نوايا طيبةٍ, لا تُجسَّد في حركةٍ, أو عملٍ, صالح.
إن الثمرة الأولى للإيمان: العمل الصالح.
وعلة وجودنا في الأرض: العمل الصالح.
والمهمة التي أنيطت بنا في الأرض: العمل الصالح.
وأخيرًا: إن ثمن الجنة: العمل الصالح.
العمل الصالح بكل معانيه ومشتملاته.. الشرعية والدنيوية سواء.. العبادية والحياتية جنبًا إلى جنب.
نحن مخلوقون للعمل الصالح، والعمل الصالح ثمن اللقاء مع الله - تعالى -، فمن أراد لقياه جلَّ شأنه، فما أمامه من سبيلٍ, إلا العمل الصالح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد