أعظم باب إلى الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إذا أردت باباً أقرب إلى مولاك وأوسع ولا مزاحم فيه فادخل من باب الذل والافتقار، فإن لانكسار القلب تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه.

هذه الذلة والكسرة الخاصة يا أخي تُدخلك على الله، وترميك على طريق المحبة، فيُفتح لك باب منها باب لا يُفتح لك من غير هذا الطريق، وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبواباً من المحبة، لكن الذي يُفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم بحيث تشاهدها ضيعة وعجزاً وتفريطاً وذنباً وخطيئة نوع آخر وفتح آخر.

والسالك بهذه الطريق غريب في الناس، وهم في وادٍ, وهو في وادٍ,، وهي تُسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السعادة فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب.

من لي بمثل سيرك المدلل             تمشي رويداً وتجي في الأول

 

والذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب - جل جلاله- غاية شمر إليها السالكون، وأمّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون، كيف لا والعبد يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها وإنما تدرك بالحصول.

فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه ولا به ولا منه ولا فيه منفعة، ولا يُرغَبُ في مثله، وأنه لا يصلح للإنتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً.

فأيّ خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه وعلم أن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ورآها – ولو ساوت طاعات الثقلين – من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه.

فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه، وما أنفع هذا الذل له وأجداه عليه، وذرة من هذا ونَفَسٌ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم.

وأحب القلوب إلى الله – سبحانه -: قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لا يرفع رأسه حياءً من الله.

قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.... فهذا سجود القلب، فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه.

وإذا سجد القلب لله – هذه السجدة العظمى – سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم، وخشعت الجوارح والأصوات كلها، وذل العبد واستكان ووضع خده على عتبة العبودية ناظراً بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقاً لربه خاضعاً له ذليلاً مستعطفاً له يقول: كيف أُغضِبُ من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه.

وما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن الوالدة بولدها؟ إذا فرّ عبده إليه وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحاً ببابه، يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه وملاذه.

يا من ألـــــــوذ به فيمـــــا أؤمله                    ومن أعـــــــوذ به مما أحاذره

لا يَجبُر الناس عظماً أنت كاسره                   ولا يهيضون عظماً أنت جابره

 

الأسباب الجالبة للمحبة:

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: الأسباب الجالبة لمحبة الله والموجبة لها والتقرب إليه وهي عشرة:

أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.

الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.

الثالث: دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.

الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: احبه لا محالة ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.

السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الظاهرة و الباطنة.

السابع: وهو من أعجبها... انكسار القلب بين يدي الله - تعالى - وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.

الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

التاسع: مجالسة المحبين والصادقين، والتقاط أطايب كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.

العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله - عز وجل -.

فمن هذه الأسباب العشرة: وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران:

· استعداد الروح لهذا الشأن

بدم المحب يباع وصلهم     ***      فمن الذي يبتــاع بالثمن

أنت القتيل بكل من أحببته    ***   فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

· وانفتاح عين البصيرة، وبالله التوفيق (كلام ابن القيم).

رحمك الله يا طبيب القلوب يا من غرقت في بحور الحب الإلهي فما نفذ شراب مولاك وما ارتويت.... كم الفرق بين أناس موتى تحيي القلوب بذكرهم، وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply