الاستعداد ليوم الرحيل


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

اعلم أن الإنسان مادام يؤمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وآيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامةً يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، يجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت. وقد حذر الله - تعالى - عباده من ذلك في كتابهº ليستعدوا للموت قبل نزوله، بالتوبة والعمل الصالحº قال الله - تعالى -: \"وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين\" (الزمر، 54 – 56) سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول: \"يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله\" وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني. وقال الله - تعالى -: \"حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها\" (المؤمنون، 99) وقال الله - تعالى -: \"وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفس إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون\" (المنافقون، 10) وقال الله - تعالى -: \"وحيل بينهم وبين ما يشتهون\" (سبأ، 54) وفسره طائفة من السلفº منهم عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها. قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان º سكرة الموت، وحسرة الفَوت. وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة أن يفجأك الموت وأنت على الغرة، فلا يصف واصف ما تلقى ولا قدر ما ترى. قال الفضيل: يقول الله - عز وجل -: ابن آدم! إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي، فاحذرني لا أصرعك بمعاصيَّ. وفي بعض الإسرائيليات: ابن آدم! احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجة لك. مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي، فكان ذلك خزياً لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة. وكثيراً ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها، كما قال القائل:

أتأمن أيها السكران جهلاً                 بأن تفجأك في السكر المنية

فتضحى عبرة للناس طراً                وتلقى الله من شر البرية

سكر بعض المتقدمين ليلة، فعاتبته زوجته على ترك الصلاة، فحلف بطلاقها ثلاثاً لا يصلي ثلاثة أيام، فاشتد عليه فراق زوجته، فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاثةº فمات فيها على حاله وهو مصر على الخمر، تارك للصلاة. كان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو، فنام ليلة وهو سكران، فرأى في منامه قائلاً يقول له:

جد بك الأمر أبا عمرو                 وأنت معكوف على الخمر

تشرب صهباء صُراحية               سال بك السيل ولا تدري

فاستيقظ منزعجاً وأخبر من عنده بما رأى، ثم غلبه سكره فنام، فلما جاء وقت الصبح مات فجأة. قال يحيي بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين. وفي حديث خرجه الترمذي مرفوعاً (وإسناده ضعيف): \" ما من أحد يموت إلا ندم \". قالوا: وما ندامته؟ قال: \"إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب\". إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء. غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعاً، ومنهم من يقطعها بالمعاصي. قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثيرٍ,، يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعةٍ,، ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك، وقد أنشد بعضهم:

لو قيل للقوم ما مناكم طلبوا                 حياة يوم ليتوبوا فاعلم

ويحك يا نفس ألا تيقظ                         ينفع قبل أن تزل قدمي

مضى الزمان في توان وهوى                 فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

أقسام الناس من التوبة:

الناس من التوبة على أقسام: فمنهم: من لا يوفق لتوبة نصوح، بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصراً عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبح من ذلك من يُسِّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم خُتم له بعمل سيئ حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح:\" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها \". وفي الحديث الذي خرجه أهل السنن: \" إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عاماً، ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار \" ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى. كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها: \"عاملة ناصبة. تصلى ناراً حامية\" (الغاشية، 3، 4) كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقي لعب به موج الهوى فغرق. الخلق كلهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا، وأنشد:

يا قلب إلام تطالبني                     بلقا الأحباب وقد رحلوا

أرسلتك في طلبي لهم                 لتعود فضعت وما حصلوا

سلم واصبر واخضع لهم                 كم قبلك مثلك قد قتلوا

ما أحسن ما علقت به                 آمالك منهم لو فعلوا

وقسم: يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعملٍ, صالحٍ, فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: \" إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَه، قالوا: وما عسلُه؟ قال: يوفقه لعملٍ, صالحٍ, ثم يقبضه عليه \"(صححه الألباني) وهؤلاء منهم من يوقظ عند حضور الموت فيوفق له ملكاً قبل موته بعام فيسدده وييسره حتى يموت وهو خير ما كان، فيقول الناس: مات فلان خير ما كان. وخرجه البزار مرفوعاً، ولفظه: \" إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحب لقاء الله، ويحب الله لقاءه. وإذا أراد الله بعبد شراً بعث إليه شيطاناً من عامه الذي يموت فيه فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ, من الله وغضب فتتفرق في جسده، فذلك حين يُبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه \". وفي الدعاء المأثور: اللهم، اجعل خير عملي خاتمته، وخير عمري آخره. وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: \" من تاب قبل موته عاماً تيب عليه، ومن تاب قبل موته شهراً تيب عليه، حتى قال يوما، حتى قال: ساعة، حتى قال: فواقاً. قال له إنسان: أرأيت إن كان مشركاً فأسلم؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \". وفيه أيضاً، عن عبد الرحمن البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: \"إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم\". قال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم\". فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: \"إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة \". قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: \"إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر بنفسه\". وفيه أيضاً: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: \" إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب - عز وجل -: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني\". ( وأخرجه أيضا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي)

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply