بسم الله الرحمن الرحيم
مهما بلغ المسلم في بعده عن الله - تعالى - إلا أنه يحتفظ ببقية إيمان في قلبه، ربما ران عليها الإثم وما كسبته الجوارح من المعصية فحال ذلك دون توبتها إلى باريهاº {كلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ}، وربما قيدتها أقفال الشهوات والشبهاتº فمنعها ذلك من الانتفاع بما يحيي النفس ويوقظهاº {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ, أَقفَالُهَا}، وربما أصيبت بعمى البصيرة فمنعها ذلك من اقتفاء الصراط السوي ومال بها عن جادّتهº {فَإِنَّهَا لا تَعمَى الأَبصَارُ وَلَكِن تَعمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصٌّدُورِ}، إنها بقية إيمان غفلتº لكن شرع لها التذكير ليقشع عنها ذلك الران فتنتفع بالذكرى، ويفكها من تلك الأقفال لتنطلق من قيدها إلى ميدان السعادة، ويجلي بصرها عن ذلكم العمى لترى نور الهداية.
والقلوب في استجابتها لنداء الرحمن أنواع: فقلب تنفعه الكلمة الطيبة حينما تنساب من قلب ناصح مخلص حكيم، وفيه يقول الله - تعالى -: { وَذَكِّر فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ }، ويقول – سبحانه -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
وقلب تكون أغلال المعصية عليه أشد، حتى تصمه عن سماع الذكرى وإن كان سميعًا، وتغشي بصره أن يرى النور ولو كان بصيرًا، وفيه يقول الله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوا عَنهُ وَأَنتُم تَسمَعُونَ(20)ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعنَا وَهُم لا يَسمَعُونَ(21)إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصٌّمٌّ البُكمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ(22)وَلَو عَلِمَ اللَّهُ فِيهِم خَيرًا لأسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضُونَ}.
غير أن بقية الإيمان في هذا القلب كانت محلاً لنداء الله لها بأن تحيى بنداءات الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ}.
إن هذا النوع من القلوب وإن استثقل الذكرى القولية أو ما شابهها، فلا ينبغي أن نستبعد حياته من جديد بنوع آخر من التذكير، التي يتمثل في وقوع المصائب أو حلول الكوارث والحروب، فقط إنها تحتاج لفتة دعوية أخرى مشحونة بالأمل، فليست القلوب سواء، وليس أعظم من الشرك طغيانًا وفسادًا، ومع هذا فالله يحكي عن المشركين رجوعهم إليه حينما تحل بهم النوائب، فاقرأ إن شئت قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلكِ دَعَوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وإنما كان رجوعًا مؤقتًا لفقدان الإيمان في قلوبهم بالكلية قبل البلاء {فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ إِذَا هُم يُشرِكُونَ}.
نعم لقد جعل الله - تعالى - الأزمات فرصة لمن حجز نفسه عن سماع الخير أن يعود إليه ويتذكر ويخشى، يقول سبحانه: {وَلَقَد أَرسَلنَا إِلَى أُمَمٍ, مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ}.
والفرصة في حال البأساء والضراء ليست في حق المقصرين ـ وكلنا مقصر ـ بل إنها فرصة للدعاة – أيضًا- لينالوا من أجور النصح والتوجيه حينما يقومون بواجبهم تجاه من شط عن نبع الإيمان الصافي، ليبذلوا كل وسيلة حكيمة لينة لإخوانهم هؤلاء فيمدونهم بأقداح الطهارة والسعادة الإيمانية، بعدما تجرعوا سموم المعاصي والفواحش، فيبينون لهم عظمة الله - تعالى - وفضل دينهم وجلالة قدره، ويرسمون لهم أسهل الطرق للطاعة وتجنب المعصية، موضحين لهم ثمار ذلك كله في عبارة سهلة ميسرة، مصحوبة بشفقة ورحمة وحكمة، وكلي أمل أنهم سيجدون منهم قلوبًا في مثل هذه الأحوال العصيبة أقرب إلى الإنابة، وأسرع في الاستجابة، وليس هذا فحسب، بل ربما عادوا مع إنابتهم بشوق إلى خدمة دينهم وأمتهم، حتى ترخص منهم الأنفس، وتجود منهم الدماء.
ولنا في قصة توبة أبي محجن الثقفي ـ رحمه الله ـ شاهد وعبرة، فلقد كان أبو محجن الثقفي لا يزال يُجلد بسبب شربه الخمر، فلما أكثر منه سجنوه وأوثقوه، فلما كانت معركة القادسية، فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا في المسلمين، فأرسل إلى زوجة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: إن أبا محجن يقول لكِ: إن خليتِ سبيله وحملتِه على هذا الفرس، ودفعتِ إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليكِ إلا أن يُقتل، وأنشأ يقول:
كفى حزنًا أن تلتقي الخيل بالقنا وأُترك مشـــــــدودًا عليَّ وَثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحـــديد وغُلِّقَت مصاريع من دوني تصم المناديا
ولله عــــــهد لا أخـــيس بعهده لئن فُرجت أن لا أزور الحوانيا
فحلّت عنه قيوده، وحُمل على فرس كان في الدار، وأُعطي سلاحًا، ثم خرج يركض حتى لحق بالمسلمين في المعركة، فأبلى بلاء لفت أنظار سعد - رضي الله عنه - فجعل يتعجب ويقول: مَن ذاك الفارس؟ قال: فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن وردَّ السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعد، فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم ؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، فقالت: والله إنه لأبو محجن، كان أمره كذا وكذا، فقصّت عليه قصته.
فدعا به، فحلّ قيوده، وقال له ـ فاتحًا له باب التوبة ـ: لا نجلدك على الخمر أبدًا، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدًا!!
وأخيرًا: دعونا نحوَّل أزماتنا اليوم إلى ساحات عمل دعوية جادة، نؤلف فيها القلوب على الإيمان، وننادي الأنفس إلى السعادة، ونوقظ الضمائر على نور الهداية، ونستثير الهمم لحماية الدين وأهله وأرضه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد