سلسلة اعترافات فتاة ( وأسمتها نعمة )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت عيناها تلمعان ببراءة وهي في فستانها الأبيض..

نظرت إلي.. فابتسمت وأنا أبكي..

حبيبتي.. أختي الصغيرة..

ها هي تترك منزل اليتم.. إلى عالم آخر..

تلفت في الحفل.. نظرت إلى الوجوه.. كنت أتمنى أن تحصل معجزة وأرى بين الوجوه وجه أمي التي لا أعرف عنوانها ولا بلدها.. أمي التي لم أرها منذ ثمانية عشر عاماً..

لكني لم أر شيئاً..

 

لا زلت أرى عينيها الغارقتين في الدموع.. وأشتم رائحة عنقها الدافئ..

- حبيبتي مها.. عمري.. مهّاوي..

حضنتني بقوة وأنا أستغرب هذا التصرف.. كانت ترتدي عباءتها.. وتسحب حقيبة سفرها.. وأنا أريد التنصل من يديها لأكمل اللعب مع ابنة جيراننا..

وقفت خلود تبكي.. وتعلقت بعباءة أمي قبل أن يدفعها والدي لتخرج بصعوبة من البيت.. بينما كانت رحاب الصغيرة نائمة..

حين اقتربت الشمس من المغيب عدت لأبحث عن أمي.. فلم أجدها.. وبقيت أصيح أمام غرفتها حتى نمت على الأرض..

وبعد فترة علمت أن أمي لن تعود.. أبداً..

* * *

 

عشنا في البداية حياة مليئة باليتم والوحدة ونحن ثلاثة أطفال أكبرنا لم تجاوز التاسعة وأصغرنا أكملت للتو عامها الثاني..

لا زلت أذكر معاناتي أنا وخلود في تنظيف رحاب وتغيير ملابسها والتعامل مع صياحها طوال الليل باحثة عن أمي.. وكان أبي يتعمد تجاهلنا حتى لا يشعر بتأنيب الضمير.. فكان يخرج من البيت كثيراً.. ولا نراه إلا قليلاً..

وحين بدأت المدارس.. كان علينا أن نعاني من هموم أخرى.. فعلينا الاستيقاظ باكراً.. لنأخذ رحاب لجارتنا أم خالد.. كانت خلود المسكينة هي أمنا.. فكانت توقظني.. وتغير ملابس رحاب ثم تأخذها وهي تصيح لبيت الجارة.. ثم نذهب لمدرستنا سيراً على الأقدام.. وكان ذلك عامي الأول في المدرسة..

* * *

 

لا أنسى.. يوم.. أن صرخت أبلة حصة على خلود في الطابور.. وأنبتها أمام الطالبات لأن مريولها غير مرتب..

شعرت يومها أن أبلة حصة تنتقص من أمي.. نعم.. فخلود كانت أمي..

المسكينة وقفت ولم تتكلم.. ولم يكن هناك مجال لأن تشرح شيئاً..

عيناها كانتا حمراوين يومها..

* * *

 

تزوج أبي.. وأحضر امرأة سليطة اللسان إلى بيتنا..

في البداية.. تقززت من البيت الذي كانت رائحته سيئة كما تقول.. وبدأت تلقي أوامرها.. ورضخنا لها..

كنا نراها تخرج وتذهب وتعود.. ونحن جالسون لوحدنا في البيت.. لا نتحرك..

ذات يوم سألتني رحوبة.. \"ما هي حديقة الحيوان؟ \"

بدأت دموعي تنساب وأنا صامتة.. لم أستطع أن أشرح لها..

وسكتت خلود أيضاً..

* * *

 

مع زواج أبي.. بدأ يغضب علينا كثيراً.. ويصرخ.. ثم.. أخذ يضرب..

ذات مرة ضرب خلود بعصا المكنسة.. ومرة أخرى رماني بقدر وجده في المطبخ لأني حرقت الطعام.. وفي مرات كثيرة دعا علينا بالموت..

كنت فقط أشفق على رحاب المسكينة.. لم أكن أود أن ترى والدي في هذه الحالات فتصاب بالرعب..

* * *

 

كبرنا وكبرت همومنا..

كنا نرى إخوتنا من أبي يكبرون.. وهم يعيشون طفولة أخرى.. لكننا لا نجرؤ على الكلام..

خُطبت خلود..

وبكت كثيراً.. قالت أنها لا تريد ترك رحاب.. لكني أقنعتها أن رحاب لم تعد طفلة.. عمرها الآن عشر سنوات..

وتزوجت خلود.. دون حفل ولا فستان أبيض..

دعوت الله لها كثيراً.. وبكيت..

وتذكرت رائحة أمي..

* * *

 

أنجبت خلود..

لكنها بقيت في بيتها.. كانت تعلم أن زوجة والدي لا تريدها هنا..

فذهبت إليها..

كانت متعبة كثيراً.. ولم أعرف كيف أتصرف معها في البداية..

لكنها أصبحت أفضل فيما بعد..

طفلتها كانت لها عينان لامعتان جميلتان..

لم يرها والدي إلا بعد أن أكملت أسبوعاً..

- سأسميها نعمة..

نظر إليها والدي بغضب.. نظراته مرعبة..

- كلا! والله لا تسمينها هذا الاسم!

ابتلعت خلود غصتها.. وسكتت.. شعرت بطعنة في صدري.. وما يضرك يا أبي؟.. هل تحرمنا حتى من اسم أمي؟

حين خرج والدي قالت خلود..

- والله لولا أني أخشى عليكما من سطوته.. لأسميتها بهذا الاسم مهما فعل..

كانت رحاب صامتة.. فهي لا تعرف أمي.. ولا رائحتها.. ولا اسمها..

* * *

 

بعد فترة خطبت أنا أيضاً.. وتزوجت..

كان زواجاً سريعاً.. والرجل.. لا بأس به.. أفضل من والدي على أية حال..

ليت لي أماً أشكو لها.. ليت لي أماً أستشيرها..

بعد عام أنجبت طفلاً..

وتغير زوجي.. بدأ يصبح أفضل..

لكن.. كان هناك ألم كبير في حياتي.. ألم لم أستطع اقتلاع جذوره..

كان يخيم على حياتي بشكل رهيب..

كلما رأيت طفلي يلعب وأنا أجري خلفه أحميه وأداعبه.. أتذكر طفولتي.. وأتذكر أختي الصغيرة.. فتنساب الدموع من عيني.. كلما رأيت طفلي يتعلق بعباءتي حين أخرج.. أتذكر أمي في وداعها الأخير فأعود إليه..

وأنجبت طفلاً ثانياً وثالثاً..

وشعور اليتم يقتلني..

* * *

 

وهي تجلس بكامل زينتها على المنصة.. كنت أرى في عيني رحاب الطفولة المعذبة.. ومن بين أصوات الدفوف.. كنت أسمع بوضوح صوت بكائها ونحن نحملها صباحاً لبيت أم خالد.. وكنت أسمع صياحها وخلود تدور بها حائرة في ممرات المنزل فجراً.. كنت أسمع صوتها تنادي.. ماما.. ماما.. ونحن نبكي معها..

قرصتني خلود وهي تتهادى ببطنها الكبير..

- كفى بكاء!.. لا تحزنيها ليلة زفافها..

ابتلعت الغصة وسكت..

وبعد أسبوع.. أنجبت خلود..

أنجبت طفلة سمراء جميلة..

وهذه المرة فقط..أسمتها.. نعمة..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply