بسم الله الرحمن الرحيم
- هنوف.. هنوف..
تقلبت قليلاً.. ثم فتحت عيني بصعوبة.. نظرت بلمحة خاطفة لساعة الحائط فإذا بها تشير للتاسعة والنصف.. لكن اليوم خميس..
- ماذا هناك.. لماذا توقظينني الآن؟
- استيقظي بسرعة.. شيء هام..
- يا الله صباح خير!..
وبدأت أجلس بتثاقل.. وأنا أتوقع أنها قد أعدت طبقاً للفطور كعادتها وحصلت مشكلة في المطبخ.. يا لنجلاء وهوايتها السخيفة.. !!
- أفففففف.. ماذا أحرقت اليوم يا فليحة؟
- لم أحرق شيئاً.. قومي بسرعة.. تعالي.. أمي.. أمي تبكي هناك.. شيء خطير حصل على ما يبدو.. يا الله!.. هل هناك من يبدأ صباح يوم خميس منعش مثلنا؟ بكاء ومشاكل (على الصبح)! يا رب ارحمنا..
- حسناً.. وماذا هناك؟
- أقول تبكي.. !
- ليست أول مرة.. اسكتي واذهبي..
- هنوف.. صدقيني.. هذه المرة الأمر يختلف.. مم.. يبدو.. يبدو..
ثم همست لي بصوت خائف واتسعت عيناها وكأنها تخبرني بشيء عظيم..
- يبدو أن أبي قد.. تـ.. تزوج.. !
تلقيت صدمة كبيرة.. لكني حاولت أن أتماسك..
- من قال هذا؟
- هذا ما عرفته من همهماتها ودعواتها عليه..
كنت قد سمعت أخباراً كثيرة من هنا وهناك حول هذا الموضوع، وحدثت خلافات كثيرة بين أمي وأبي تخللها موضوع هذا الزواج.. لكني لم أتوقع أن يتحول هذا الكلام فعلاً لواقع ملموس.. كنت أتوقع أن أبي كان يقول ذلك ليغيظ أمي فقط.. ولم أصدق ما قالته هذه المتهورة.. أو.. لم أرغب في تصديقه.. شعرت بأنها تختلف أو تتخيل.. فصرخت بها بقوة لأقذف سيل غضبي عليها..
- (انقلعي)!! اذهبي يا غراب السوء.. حسناً.. فليتزوج.. أريد أن أنام!!
تكورت في سريري وغطيت رأسي حتى أطراف قدمي بالغطاء جيداً.. دفنت رأسي بالمخدة.. وتمنيت لو أعيش في جزيرة صغيرة في المحيط.. تماماً مثل تلك الجزيرة التي كانت تظهر في إحدى حلقات (وودي بيكر) حين كنا صغاراً..
يا سلااااااام.. جزيرة هادئة.. رمال وأشجار جوز الهند.. وأمواج زرقاء صافية.. وأسمع أصوات الطيور.. وأمواج البحر.. فأسترخي في هدوووووووووء..
(ززززززززززززز)
يا إلهي.. ما هذا الصوت المرعب!! زلزال!
أزلت الغطاء عن وجهي لتظهر أمام عيني (سومارتي) الغاضبة تكنس الغرفة بالمكنسة الكهربائية.. صرخت بغضب..
- ألم تجدي غير هذا الوقت لتكنسي فيه؟!!!
صمتت بعناد وأكملت عملها دون أن تلتفت إلي..
يا الله!.. ماذا أفعل.. ياللإزعاج.. مشاكل.. زواج.. بكاء ومكنسة كل هذا في صباح يفترض أن يستمتع الناس فيه.. !!
خرجت من الغرفة.. ذهبت للحمام.. وحين غسلت وجهي ونظرت لنفسي في المرآة.. بدأت أستوعب حقيقة ما سمعته من نجلاء قبل قليل.. هل يعقل هذا؟ كلا.. لا يمكن.. لابد وأنها خمنت هذا الأمر.. أو هذه المصيبة.. لا.. لا يمكن.. أن.. يتـ.. أعني.. يتزوج.. أبي.. لا يمكن.. فهو أبي.. أبونا نحن.. نحن وحدنا.. ولن يذهب لغيرنا..
هكذا أخذت أفكر ودقات قلبي تتسارع بقوة..
وحين مررت قرب غرفة أمي.. كان صوت بكائها واضحاً.. وبابها مقفل.. والحزن يجثم على البيت بشكل مرعب.. طرقت الباب.. لكنها لم تفتح..
توجهت للصالة.. كان الصغار مستلقين على بطونهم لمشاهدة بعض الأفلام المتحركة.. وحين رأوني شعروا بأني المنقذ لهم.. قفزت رنا الصغيرة أمامي..
- هنوف.. أنا جوعانة.. جوعانة
- اذهبي لسومارتي.. اطلبي منها أن تصنع لك شيئاً..
- كلا.. سومارتي لا تريد.. إنها غاضبة..
فعلاً.. إنها صادقة.. حين تغضب سومارتي فإنها لا تطاق..
لا أعرف لماذا تجتمع كل الأحزان سوية..
رن الهاتف.. لم أكن أرغب قي الرد لكن عزوز (الملقوف) أسرع ورد على الهاتف ليناولني إياه بعد رد السلام.. ففف.. فكانت المتحدثة زوجة عمي.. لابد وأنها تريد الشماتة..
كانت تريد أن تؤكد لي بطريقة أو بأخرى أن أبي قد تزوج.. لم أستطع إكمال المكالمة فقد بدأت الدموع تنهمر من عيني بلا شعور.. وأغلقت الهاتف بقوة..
* * *
في الأيام التالية.. حاولت أن أكون أكثر تماسكاً وأن أبدو متفاءلة أمام أمي التي كادت تنهار في أول الأمر.. وكنا نتحدث برسمية شديدة معها.. فقط نجلس للأكل فتسألنا بعض الأسئلة البسيطة ثم تعود لغرفتها.. ونحن كنا نراعي مشاعرها قدر الإمكان.. حتى الصغار لم يعودوا يطرقون بابها كالسابق..
وفي المدرسة.. كنت أفكر بقلق.. ماذا أقول حين يسألني أحد عن خبر زواج أبي؟ هل أدعو على أبي وأتحدث عنه بغضب وكأنه ارتكب جرماً كبيراً؟.. أم أنكر الخبر وأكذب؟.. أم أحاول أن أتهرب من الأسئلة وأتركها تدور في أعينهم ليتحدثوا في هذا الأمر خلف ظهري؟!
كنت أفكر في هذا الأمر كثيراً، وكنت قلقة بشأنه أكثر من قلقي بشأن زواج أبي نفسه.. لقد وجدت نفسي أخشى مواجهة الآخرين أكثر من مواجهة الواقع الجديد.. وبالفعل.. بدأت الأخبار تعرف طريقها للمدرسة.. وبدأت أسمع بعض الهمسات من خلف ظهري.. مثل:
- هذه.. نعم.. هذه.. مسكينة.. تزوج على أمها.. تصدقين.. ؟
- نعم.. الهنوف (ما غيرها).. أبوها تزوج على أمها.. تصدقين.. ؟!
كانت هذه الهمسات تجرحني أكثر من أي شيء آخر.. فقد أصبحت في أعينهم أثير الشفقة والعطف.. وكنت ألمح بوضوح كيف يغيرون بعض القصص والحكايات حين يمرون على قصة رجل تزوج بثانية حفاظاً على مشاعري..
وابتلعت كل تلك الآهات بصمت.. لكني عموماً.. كنت قوية.. وصامدة..
* * *
بعد أيام تحسنت حالة أمي وعادت للابتسامة.. فقد عاد أبي بعد أن سافر مع زوجته لأسبوع لأداء العمرة.. وقد أحضر لأمي طقماً رائعاً من الألماس.. لم أصدق أني أرى أبي!.. حين عدت من المدرسة ورأيته يجلس بهدوء وأمي تبتسم قربه وأمامهم صينية الشاي.. شعرت بسعادة غامرة.. أسرعت وضممته بشدة حتى أسقط عقاله.. ولم أحدثه في الموضوع.. سألنا عن أحوالنا وعن دراستنا كالعادة.. ثم تغدينا معاً وسط ضحكات أخوتي.. وبقي أبي لدينا حتى الغد.. وكان سعيداً جداً.. وكذلك أمي..
وفي المساء التالي سمعتها تتحدث مع خالتي على الهاتف.. أخبرتها أن أبي أحضر لها هدية وأخبرها بأن مكانتها ستبقى الأغلى لديه.. لكن في نبرة صوتها كان لا يزال هناك ألم..
حين دخلت عليها ذات يوم وهي تتصفح الجريدة.. سألتها بغباء وبلاهة لا أعرف من أين أتتني! يمه هل أنت سعيدة مع أبي؟
رفعت رأسها مستغربة السؤال.. ثم عادت تتصفح الجريدة وهي تحاول أن تتهرب من النظر إلي..
- ليس كثيراً.. !
وقلبت صفحة.. ثم قالت وهي تبعد خصلة شعرها خلف أذنها وتتابع القراءة.
- لكني لست حزينة.. الحمد لله.. فأبوك لم يتغير.. على الأقل أصبح يهتم بنا أكثر.. شعرت براحة من ردها الصريح.. والحقيقة أن البيت أصبح فعلاً أكثر هدوءاً منذ زواج أبي.. والمشاكل قلت بينهما.. فأصبح يراعي شعورها أكثر..
وحين يأتي يخرج بنا للنزهة وكأنه يعوضنا عن غيابه عنا.. كل ما هناك هو فقط كلام الناس.. وشماتة الحاقدين كزوجة عمي..
* * *
بعد عدة أشهر أستأذننا أبي في أن نرى زوجته الجديدة.. وسمحت لنا أمي بذلك.. وحين رأيتها انتابني على عكس ما تصورت شعور بالراحة والرضا.. فهي ليست كما تقول زوجة عمي فتاة جميلة وصغيرة!.. بل امرأة متوسطة العمر ونصيبها من الجمال قليل جداً.. وعرفت أن الذي أعجب أبي فيها هدوءها وأخلاقها الطيبة.. وقد كانت بشوشة.. مرحة.. وطيبة جداً كما يبدو.. كانت تضحك معنا وتروي لنا القصص عن طفولتها بمرح.. وكأننا نعرفها منذ زمن طويل.. وكان أبي سعيداً لاندماجنا معها..
وبعد أشهر جاء اليوم الذي انتظرناه طويلاً وهو اليوم الذي تتقابل فيه أمي معها.. والحمد لله أنهما انسجمنتا ولم تحدث أية مشاكل.. أنجبت زوجة أبي... وأصبح لي أخوة من أب.. لكنهم مثل أشقائي تماماً.. وكانت لأمي مثل الصديقة والأخت.. ومضت حياتنا سعيدة ولله الحمد.
وكلما تذكرت ذلك الخميس المرعب الذي سمعنا فيه بزواج أبي لأول مرة.. حمدت الله وشكرته.. لأن بعض الأمور تتحول لعكس ما تبدو عليه في أول الأمر..
(وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم)..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد