معذب بين أهله !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قصة شاب مستقيم يعاني من أهل بيته

في ظلمة الليل الحالك.. وحيث الضوء الخافت يختلس النور من الغلس، فينشر رداءه في حجرة أحمد.. لا تكاد تسمع إلاَّ همهمته وهو يدعو ربَّه في سجوده، كأنه الجذع المنصوب، قد اختلطت عِباراته بعبراته.. انعكس ضوء القمر على دمعته الساخنة التي جرت على خده كحبة لؤلؤ منثور.. وفجأة!

إذا بصوت [سيارة] يشق السكون.. يطعن الصمت بخنجر الضجيج.. عجباً! من سيأتي إلينا في آخر الليل؟! ماذا يريد منا؟ وما الذي جاء به إلينا؟!

يقطع هذا الترقٌّب وتلك التصورات صوت خالد ـ أخوه الأكبر ـ وهو يودِّع أصحابه في آخر الليل بعد أن قضى معهم سهرة طويلة.. ملئت بكلِّ رذيلة!

عبثٌ.. معاكسات.. مطاردات.. دخان.. أغان.. فواحش.. سلسلة من القذارات تلطَّخت بها الأوقات، وضاعت بها الأعمار.. أرخى أحمد ستائر حجرته في وجه الظلام العابس. وأخذ يتمتم بالدعاء لأخيه الغافل.. مسكين أنت يا خالد! تطعن نفسك بسكين الغفلة، وأنت لا تشعر! والله لو ذقتَ ما أنا فيه من السرور والسكون لرغبت فيما أنا فيه من طاعة وعبادة.. وراحة وسعادة.. ولكنه الشيطان.. عدو الأمن والإيمان.

أعوذ بالله منه.. أعوذ بالله منه.. ثم قام ليتم القيام.. وانطرح خالد في فراشه كالجيفة.. ليلد الفجر من رحم الظلام!

 

***

خرج أحمد من منزله مصبحاً متوجهاً نحو المسجد ليصلي مع جموع المسلمين يخطو خطوة من بعد أخرى..  لتعصف الخواطر برأسه، وتتفجَّر براكين الأسى بقلبه على أهله النائمين / المكبلين عن الطاعة بقيود المعصية.

رضوا بأن يكونوا من الخوالف!

يا لهف نفسي عليهم!

يحترقون.. يحترقون.. فمتى يفيقون من غفلتهم؟! ومتى ينتبهون من رقدتهم؟!

آه.. لو يذوقون لذَّة الطاعة!

لو يشعرون بحلاوة القرب من الله!

لو يتمتعون بنعيم الأنس بالله!

ماذا أصنع لهم لأخرجهم من شراك المعصية وشباك الغفلة؟!

هل أقول لهم: أنتم أشقياء! بؤساء! تعساء! معذَّبون!

يا ليتهم يشعرونº ماذا يخسرون!

وإلى مقت من يتعرَّضون!

لقد كنت مثلهم.. في غفلتهم.. كانت سلوتي في السهو واللهو.. وأحلامي حكراً على التفاهات.. فريقٌ يفوز.. وآخر يخسر.. هنا نرقص.. وهنا نفحِّط.. وها هنا نسهر!

هذا فيلم رائع! وتلك مسرحية شائقة! وتلك قصَّة رائقة!

كانت سعادتي في صوت حبيبتي المزيفة حين يخترق حُجب الصمت لينفذ كالسهم نحو حبَّة القلب.

كانت آمالي تنصبٌّ على ملك سيارة فارهة، وشقَّة فاخرة، وجهاز اتصال.. ومال.. وجمال.. أحلام بلهاء.. وآمال جوفاء.. كسرابٍ, بقيعة أو بيوت من رمال!

هكذا أردتني المعاصي، وأخزتني الموبقات حتى كدت أهلك.. فلك الحمد يا ربي!

أحييت قلبي بعد موته، وأيقظت جذوة الإيمان في فؤادي بعد أن خبت تحت ركام السيئات، وأنبتَّ بذرة اليقين في قلبي لتثمر طاعة لربي.. تسرٌّ الناظرين!

انهمرت الذكريات على عقل أحمد كالمطر.. وتتابعت كموج البحر.. ليلج إلى بيت ربه، فيخلع على عتبة بابه دثار الهموم والغموم.. إنَّه في ضيافة أكرم الأكرمين، وكفى!

 

***

جلس أحمد في مكان صلاته، يذكر الله - تعالى -ويستغفره، حتى ارتفع قرص الشمس عن الأرض.. فراق يعقبه عِناق!

ليمرَّ عليه أصدقاؤه الصالحون / الناصحون.

ليذهبوا به إلى مقرِّ نشاطهم بجوار أحد المساجد حيث المتعة والفائدة، والجو الإيماني العبق.. والصحبة الصالحة.

لا تسمع منهم ما يضرّ.. ولا ترى فيهم إلا ما يسرّ.. كلمات حانية، وبسمات راضية، وأخلاق سامية، ومعاملة فاضلة.

تشعر معهم أن قلبك يخفق بقوَّة، كقوة الحب في الله التي تجمع هؤلاء الغرباء، وكأنما أنت بينهم كلبنة بين جنبات بنيان عظيم.

ويعود أحمد إلى منزله قبل صلاة الظهر ليستقبله والده بوابل من السباب، يوجع القلب ويمض الفؤاد ويعكِّر المزاج..

أما قلت لك مراراً: لا تمشي مع هؤلاء [المطاوعة]!

أما حذرتك منهم؟ ألم أنهك عنهم؟

إنَّك تتلذّذ بعنادي ومخالفة أمري..

يا لك من ولدٍ, عاق! سيئ الأخلاق!

لم تسكن هذه العاصفة الهوجاء من الهجاء إلا على دمعات حزينة تحدَّرت من محجر أحمد كانت كفيلة بإسكات الوالد الهائج كالبحر المائج.

هيَّا.. هيَّا..

أُغرب عن وجهي.. أذهب من أمامي، وإلاَّ أوسعتك ضرباً وركلاً بقدمي هذه.. لملم أحمد حزنه في قلبه، وكفكف دمعه في عيونه، ومشى بخطوات ثقيلة نحو فراشه ليرمي بنفسه كالجريح، ويلتحف بالغطاء، ليجهش بالبكاء!

ربَّاه.. ربَّاه..

متى يبزغ النور؟! متى ينبلج الضياء؟! متى يأتي الفرج؟!

بهدايتهم.. أو.. بخروجي عنهم؟!

يا ربِّ! ثبتني.. فإني أتزلزل.. أتضعضع.. أتململ!

غدوت كشجرة خضراء تصفعها العاصفة وتلطمها الريح الهوجاء..

 

****

البيت له دويُّ قوي.. فنغمات المعازف تكاد تدكدكه.. انسَّل أحمد من حجرته ليخرج إلى مصدر الصوت.

إنَّه خالد!

يتراقص كالحيَّة، ويتمايل كالثعبان.. ويله من نفسه!

ألا يدري أن الله يسمعه؟!

ألا يشعر أن مولاه يراه؟!

أهكذا تُبدَّل نعمة الله كفراً؟! وفضله وجوده جحوداً و نكراً؟!

أهكذا نعصيه بنعمه؟! ونتمرَّد عليه بفضله؟!

فماذا نقول له إذا لقيناه؟ وبأي حجة نعتذر منه إذا رأيناه؟!

كم نغفل عمَّن لا يغفل!

الصراخ يتعالى.. والنداء يتوالى.. يا خالد.. يا خالد.. إنه أبي ينادي أخي!

اخفض صوت هذه الأغنية، فإني في الحجرة المقابلة أتابع فيلم السهرة.. لقد أزعجتني بهذا الصوت.. أذهبت متعتي، وبدَّدت سلوتي.. والد غافل.. وولد فاشل.. عاد أحمد بعد أن رأى هذا المشهد ليضطجع على فراشه..

وضع شريط القرآن في أداة التسجيل ليأتي صوت القارئ العذب كوابل يهمي فيلامس شِغاف القلب المكدود، أو كديمة حالمة تعانق زهرة باسمة، فتحت ذراعيها للسماء في صفاء!

كم أنتم ـ يا أهلي ـ في سبات!

والله لو تعلمون ما أنا فيه من السعادة لجالدتموني عليها بالسيوف!

كيف استبدلتم كتاب الله بهذا الغثاء القبيح؟!

كيف سلوتم عن ذكر الله، وتسليتم بالغفلة عنه؟!

أما شعرتم بحرقة الحرمان منه؟!

كم غرَّتكم أنفسكم! وغرَّكم بالله الغرور!

 

***

غرس أحمد وجهه بين دفتي كتاب نافع يقرأ فيه، فإذا بصوت والدته يصيح فيه.. فأجابها على الفور.. أماه! ماذا تريدين؟

أريدك أن تذهب بي إلى السوق.

سمعاً وطاعة، وحبَّاً وكرامة.. ولكن!

تبعثرت الحروف على شفتيه، وتناثرت الكلمات في فيه.. ماذا تريد أن تقول؟

أماه! إنه لا يجوز لك أن تخرجي إلى مجامع الناس بهذه العباءات المزركشة، وهذه العطور الفائحة، وهذه الأيدي والأرجل المكشوفة، وهذا النقاب وهذه... انفجرت في وجهه كالبركان.. قذفته بالحِمم.. لتنكأ الجراح وتزيد في الألم.. أيٌّها العاصي! لم يبق في الدنيا إلاَّ أنت! تأمرني وتنهاني..ما هذه المصيبة العجيبة؟!

من غيرَّ طبعك؟ من بدَّل حالك؟

كيف استطاع أن يقذفنا بهذه الداهية؟ ويسيء إلينا بهذه الإساءة البالغة؟

لهفي عليك!

استلَّت من معجم الألفاظ القاسية ما يوجع، غرستها في قلبه كالسهام الجارحة، ثم ولَّت جامحة، لتركب مع سائقها لوحدها إلى السوق!

أما أحمد، فعاد إلى حجرته، والعود أحمد.. ضاقت عليه جدرانها، أطبقت على صدره أركانها، حبس الهواء في جوفه وكأنما يتنفس في خرم إبرة.. رفع بصره إلى السماء.. أغمض عينيه.. أحرقته حسرته، فغلبته عبرته، وعاد إلى كتابه لينيخ فوق صفحاته ركابه!

 

***

إيقاد شمعة في الظلام خير من لعنة ألف عام.. فهيَّا.. هيَّا يا أحمد.. أوقد شمعة ضياء بين دياجير الظلام الحالك.. أخذ كتابه بيده، وذهب إليهم حيث يجتمعون.. حسناً! الجميع هنا.. ولكن حول هذا الشيطان الأكبر!

ينظرون فيه، ويسمعون منه، ما ينقص إيمانهم، ويضعف يقينهم، ويرجف في قلوبهم.. نظروا إليه بنظرة واحدة، ثم التفتوا عنه التفاتة واحدة.. لم ينهزم.. هكذا الأنبياء كانوا يفعلون!

صمود في وجه الصدود.. وجلد في مقارعة الجمود.. ومقاومة المقاومة..صبرٌ في البداية، وظفرٌ في النهاية..

بدأ يقرأ لهم من كتابه.. كلمات معدودة وأسطر محدودة، فإذا بهم يتبادلون البسمات الساخرة في خلسة، والغمزات المستهزئة في خفية.. كتموها، ثم أبدوها.. فإذا بضحكاتهم تجلجل في أذنيه كصوت الرعد القاصف، وابتساماتهم تتردد في عينيه كالبرق الخاطف.. الأم هنا.. والأب هناك.. أما الأخ والأخت فانقلبا على ظهورهما ضاحكين.. وبدأ الكلام كالسهام.. يتندرون به، ويضحكون عليه، ويسخرون منه.. حتى سالت دموعهم على خدودهم من الضحك.. أما هو فسالت دمعته على صفحة خده من البكاء.. رآها الجميع.. سقطت من عينيه لتقع عند قدميه.. وذهب أحمد، والحزن يعصف به من كل جانب، والألم يحيط بقلبه من كل صوب لقد رأى نفسه كالفريسة الضعيفة بين مخالب وأنياب من يمزقها إرباً إرباً.. ألجمه الموقف بلجام الصمت.. حتى ما عاد يقوى على الكلام.. وودَّ لو أنه صاح فيهمº يا أهلاه!

أما لهذه الغواية من نهاية؟!

أما لهذا الضلال من زوال؟!

إنما هذه الحياة الدنيا متاع، والآخرة هي دار القرار.

والعمر حلم عابر، ولا بُدَّ لهذا الليل من آخر!

طوى حزنه بين ضلوعه، وغمس ألمه في دموعه، عاد إلى حجرته، ليخلد إلى وحدته.

 

***

انكسر حاجز الصمت بينهم.. فأصبح الأخوة يستهزئون بأحمد في كل وقت.. على عين الأب وسمع الأم.. يسألون عن حكم المعازف، فإذ قال حرام.. رفعوا صوتها عنده.. وانطلقوا في الضحك كالمجانين.

ويسألونه عن حكم مشاهدة المسلسلات.. فينهاهم عنها ويحذرهم منها.. فإذ ما رأوا فيها موقفاً مشيناً ومنظراً مخزيا.. صاحوا فيهº فما رأيك في هذا؟! ثم ينطلقون في الضحك.. فإذا سمع منادي الخير يناديº حي َّ على الصلاة.. ناداهم إليها، ورغبهم فيها، وهم لا يبالون به، ولا يلتفتون إليه، فإذا ما زاد عليهم في الحديث، سخروا منه، وأعرضوا عنه، وقالوا: يكفينا أنت [يا مطوع!]

الإيمان في القلب! ونحن قلوبنا نظيفة! وأنت قلبك مريض.. يزكون أنفسهم، وكأنما إيمانهم في قلوبهم كالملائكة..

ويلمزونه من طرف خفي، ويطعنون في إخلاصه وصدقه.. فإذا ما غلبتهم حجته، قالوا في ثقة: ستعود كما كنت!

ولن تصبر أكثر من هذا.. لن تقاوم التيار.. و تواجه الإعصار.. وستسقط من عليائك مع تعاقب الليل والنهار.. فيصيح فيهمº ولو تخطفتني الطير! ولو مُزقتُ كلَّ ممزَّق! إن شاء الله.

يصرون على الهلاك.. ويلحٌّ على الفكاك.. فسارت ركائبه ذات اليمين، وأسرعت كتائبهم ذات الشمال، فأنَّى يلتقيان؟!

 

***

أوجس في نفسه خيفة من أبيه الذي يناديه في عنف.. يجرٌّ خطاه المثقلة بالخوف، ليذهب إليه، ويقف بين يديه، فيصرخ فيه:

أما نهيتك عن صحبة هؤلاء الأوباش!

لا أريد أن أرى صورهم! لا أحتمل أن أسمع أصواتهم!

إنهم متنطعون.. متطرفون.. متزمتون.. معقدون.. قذفهم بكل داهية مخزية، ورجمهم بكل رزية مزرية.. ثم التفت إلى أحمد.. وأخذ يرعد ويزبد.. يصرخ فيه في هواجة، ويضربه بعنف، ويركله بقوة، ويبصق في وجهه باستخفاف.. ويصرخ: لم يبق في الدنيا من المصائب إلا الأطفال.. ينصحوني أنا.. يضرب صدره بيده، لينتفخ كالبالون.. أنا بجلالة قدري وعظمة مكاني، يأتيني أحد أصحابك فيوصيني بالرفق بك.. هذا يعني أنك تشكوني لغيري.. فماذا فعلت بك أيها الناكر للجميل؟!

أنا لم اقصِّر عليك في شيء.. أطعمتك أفضل الطعام، وكسوتك أجمل اللباس، وأسكنتك أفخم المساكن، وأركبتك أحدث المراكب.. فهل بعد هذا تراني قصَّرت في تربيتك؟!

ابتسامة صفراء ـ فاقع لونها ـ علت على شفاه أحمد، وهو يحادث نفسه: أهذه هي التربية؟!

انهال عليه بأقذع السباب وأفظع الشتائم.. طرده من بين يديه، ثم لحق به إلى حجرته، ليحمل ما فيها من كتب وأشرطة.. هذه التي غيَّرت حالك، وأبدلت فعالك..ثم خرج بها، ليترك أحمد كالضائع في صحراء البؤس، والتائه في فيافي الأحزان.

 

***

فكَّر أحمد وقدَّر.. فإذا بذلك الجهاز الآثم قد أجهز على قلوبهم فأرداها، وعقولهم فأغواها.. وبدت له أوصاله الممتدة كأيدي الأخطبوط حالما تحيط بالفريسة أو كبيوت العنكبوت عندما تتشبَّث بالضحيَّة.. لينةٌ رقيقةٌ.. لكنَّ المنية تجثم في أحضانها.

وكان القرار!

كاس ماءٍ, بارد كفيلة بأن تسكته إلى الأبد!

قفزت على شفتيه ابتسامة صغيرة.. انتصارٌ واحد بين مئات الهزائم.

ضرب بقبضة يمينه في راحة شماله، وقام كالضرغام.

الجميع نائمون.. بعد ليلة صاخبة، سُمع فيها كلٌّ شيء إلا صوت الحق.

دلف أحمد على عجل إلى المطبخ ليملأ كأساً من الماء.. أوصاله ترتعش.. أطرافه تنتفض.. نظراته العجلى توحي بما في قلبه من وجل!

تسلَّل إلى غرفة جهاز الاستقبال، فأغرقه بالماء.. ثم استدار إلى الوراء.. تعثَّر في خطاه.. وثب كالأسد.. حتى لا يراه أحد.. وخرج من البيت.. تسبقه أنفاسه اللاهثة وخفقات قلبه الواجفة.. آه.. يا ويلي!

الكأس ما زال في يدي!

قذف بما بقي فيه في فيه، ثم نضح بما بقي منه على وجهه.. سكت عنه الخوف.. فانفجر ضاحكاً في سرور!

 

***

عاد أحمد إلى منزله في المساء.. فإذا بأهله في انتظاره.. قد أحاطوا بأبيهم إحاطة السوار بالمعصم.. صمتٌ مطبق و سكون خانق، و كأنما على رؤوسهم الطير.. أدرك أحمد أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة!

ألقى السلام.. تراجع للخلف.. تقدَّم للأمام.. لا مجيب!

ومن عمق السكون انفجر البركان.. هل بلغت بك الجرأة أن تعطب ممتلكاتنا.. أيها الوغد!

انطلق عليه بلسانه ويده وقدمه.. كاد يهشم عظامه، ويحطم أركانه.. انسحق أحمد كالرميم، انطبق على بعضه حتى عاد كالعرجون القديم، والسياط على ظهره كأذناب البقر.. والشتائم كالرماح تنكأ في الجراح.. اختلفت معالم الوجه.. واختفت علائم الجاه.. رقَّ قلب الأم.. فاستلَّته من بين يدي أبيه الذي كاد ـ من غضبه ـ أن يقضي عليه.. تعلَّق بأمِّه كالغريق.. صاح فيهº أخرج من بيتي.. لا تبق أمامي.. أخرج!

انطلق أحمد على وجهه هائماً كالغريب.. ضاقت عليه الدنيا بما رحبت.. أطبقت على صدره الهموم.. اختلطت في وجهه مجاري الدموع.. ما عادت تتَّسع لقلبه الضلوع... انطلقت به خطاه إلى بيت مولاه!

أفرغ ما في جعبته من هموم وغموم مع أول سجدة بين يدي الله.. دعاه بصدق.. ورجاه بإخلاص.. فجاءه الخلاص..

دبَّ إلى قلبه الرضا بالقضاء.. فقام كأنما نشط من عقال!

 

***

عاد الجسد المثخن بالجراح إلى المنزل الذي أصبح كالسجن الخانق تضيق فيه الأنفاس، وتظلم فيه القلوب.. الأنوار ساطعة، والأضواء باهرة، لكنه محروم من نور الطاعة، مسلوب من نعيم الإيمان.. ويتذكَّر أحمد أنَّ لمنزله ملحقٌ صغير في طرف الفناء، يتكون من حجرتين صغيرتين.. دخل إليه، وانطرح فيه، وحالما لامس جسده الأرض عانقها في شوق، لينطلق في سبات عميق.

أنست روحه لهذا المكان.. أدرك فيه بُغيته.. وأصاب منه نهمته..هنا أعبد ربي، ويسلم قلبي.. حيث الهدوء والسكينة، والراحة والطمأنينة.. لا يتعكر صفو الحياة بمعصية الله فيما نسمع ونرى..

ولا يتكدَّر الخاطر بالغفلة عن اليوم الآخر

لقيمات يقمن صلبه كانت تأتيه من والدته التي أشفقت عليه مع عدم رضاها عنه كفيلة بحمايته من دخول ذلك البيت الكبير المملوء بالغفلة والمسكون بالمعصية..

حيث الاختلاط.. التبرج.. المعازف.. ترك الصلوات.. بغض الصالحين.. الفواحش.. الغيبة.. سلسلة من المآثم كبلت أقدام هذا البيت من النهوض من قعدته والانتباه من رقدته..

وما لجرحٍ, بميِّت إيلام!

 

***

كرَّ الليل، وفرَّ النهار..

وانبثق الفلق، واحترق الشفق..

وتلاحقت الليالي وتعاقبت الأيام على أحمد وهو في ملحق المنزل، وحيدٌ طريد.. لا جليس يسامر، ولا أنيس يناظر

أدرك أنه استعجل قطف الثمار، فبيتٌ عشعش المنكر فيه لسنوات طوال لن يتغيَّر في لحظة واحدة إلا بإذن الله.. اتكأ على أريكته.. رحل مع قطار التذكر.. وقعت أمام عينه صورة [باسم] صديقه المستقيم.. كم أنت في سعادة يا باسم!

أبٌ صالح، وأُمٌ مستقيمة.. يتعاونون على العمل، ويتنافسون على الطاعة، ويسارعون إلى الخيرات.. هنا يغدو للعيش معنى، وللحياة قيمة!

وتنطوي صفحة باسم.. لتفتح صفحة خالد.. أخوه الغافل.. يعيش هملاً بلا قيود.. ينطلق حيث يشاء.. لا أحد يردعه، ولا حياء يمنعه، ولا خوف يفزعه.

يتظاهر بالسعادة، ويتغنى بالسرور.. زفرةٌ مُرَّة كادت تمزق أضلاعه.. يطوي الزمن في قبضته، ليرحل بمخيلته إلى الرعيل الأول!

يتذكر قصة مصعب بن عمير.. عبد الله بن عبد الله بن سلول.. أبو عبيدة.. أبو هريرة.. وغيرهم كثير وكثير.

حقَّاً!

إن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالصبر واليقين!

والعاقبة للمتقين!

انفسح الصدر وانشرح.. سبحان الله!

كم هي حكمة الله! وكم هي رحمته!

يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، ولا يظلم ربٌّك أحداً!

 

***

أرسل إليهم بالأشرطة، بعث لهم بالرسائل، بثَّ بينهم الكتب.. سُدَّت في وجهه المنافذ.. أغلقت أمامه الأبواب

وبقي الباب الذي لا يُغلق!

إنَّه باب الحي الذي لا ينام!

وفي آخر الليل.. وحيث الظلام الدامس يلامس وجه الأرض، فيغطش ليلها، وينحر نورها.. قام أحمد يصلي صلاة القيام.. نورٌ في وسط الظلام!

يدعو ربَّه.. يتملَّقُه.. يتضرع بين يديه.. يعرض حاجته عليه.. فمن ذا الذي طرق بابه فطرده؟!

أو سأله رِفده فردَّه؟! وهو الجواد الكريم!

خزائنه لا تنضب، وفضله لا يُحد، وعطاءه لا يُعد.

ويرتفع الدعاء من الأرض إلى السماء.. اللهمَّ أعيتني الحيل.. وانقطعت بي السٌّبل.. فإليك ألتجئ، ولفضلك أر تجيء اللهم أصلح والدي.. اللهم أهد والدتي وأخوتي.. اختلط الدعاء بالدموع في خضوع.. دخل والده إلى فناء الدار.. بعد ليل مليءٍ, بالذنوب والأوزار الظلام يلف المكان، سوى ذلك النور الخافت في غرفة أحمد..ماذا يصنع هذا الغلام في هذا الظلام؟!

تقاربت خطاه.. حبس أنفاسه.. استرق السمع.. يا للعجب! إنه يدعو لي! يا ربِّ اهد والدي... بعد هذا كلِّه!

نعم! إنَّه الدين.. الإيمان.. التقوى.. وبينما كان أحمد منتصباً كالطود الشامخº يدعو ويرجو..يرتل القرآن غضَّا نديَّاً كما أنزل.. بصوت ندي شجي.. وإذا برِجلٍ, تنتصب بجوار رجله.. وجسد يستقيم بجنب جسده.. أدرك أحمد أنه والده!

خفق القلب.. ارتعشت الأطراف.. أنحبس الصوت.. فاضت الدموع.. تغشاهما الخشوع.. بكيا كثيراً.. دعيا كثيراً.. تضرَّعا كثيراً وكثيراً.. فرغا من صلاتهما.. بعد أن تغسَّل القلب من أدرانه.. ضمَّ الوالد ولده.. قبله بين عينيه.. أقبل أحمد على أبيه.. يقبله على رأسه ويديه.. ماذا حصل يا أبي؟!

يا بني!

لقد عشنا مع الشيطان عمراً طويلاً.. وقد آن الأوان أن نعيش ما بقي لنا منه مع الرحمن!

أحرقتنا الذنوب.. عذبتنا المعاصي.. جعلنا الخطايا مطايا، وقد أزف وقت الرجوع.

لقد حان الزمان الذي نجدد فيه مسيرنا إلى الله!

[أفمن شرح الله صدره إلى الإسلام فهو على نور من ربه. فويل للقاسية قلوبهم]

هطلت سحائب الفرح.. رقصت فراشات المرح..

أقبلت السعادة بنور العبادة، و جمعت الذنوب أوراقها لتحرقها أنوار التوبة الصادقة.

وأشرقت شمس الطاعة على بيت أحمد ليهنأ فيه ويسعد!

وخرجت الشياطين تعض على أصابعها من الغيظ..قل:موتوا بغيظكم!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply