حصالتي .. تفريط والدي وتواطؤ معلمتي


بسم الله الرحمن الرحيم

 

تسلمت هدية في حفل نهاية العام الدراسي، وقمت بفضها يساعدني أبي. كانت صندوقا أبيض على شكل قط مبتسم الوجه، لكن فمه مفتوح، التفتٌّ لأبي متسائلة: وأين أسنانه؟ إنها حصالة يا بنتي وليست دميةº تضعين في هذا الثقب ما فاض عن حاجتك من المال، وعندما تمتلئ يكون قد تكون لديك مبلغ جيد ربما يكفي لشراء مجلة، أو رباط شعر، أو لعبة صغيرة أو أي مما تحلمين به. نظرت إلى حصالتي وابتسمت إليها ابتسامة رضى و كذلك لأبي ومعلمتي.

 

لكنك يا أبي لا تملك حصالة مثلي، فقال وقد سرح بنفسه إلى ذكريات بعيدة: كنت أمتلك مثلها لكنها ليست قطة، كانت صندوقا خشبيا ذا ثقب مستطيل من أعلى، لكنها تفي بالغرض، وأين هي الآن؟ الآن يا بنتي لم أعد أحتاجها، فعندما تكبري ستجدين نفسك تضعين الفائض من مالك في حساب باسمك في البنك. وهل يفيض مالك هكذا يا أبي؟ قهقه أبي لسؤالي البريء ولم يجب. حسنا، وماذا تفعل بمالك الذي تأخذه من البنك يا أبي؟ أنفقه في التزامات مختلفة. وانحنى أبي يلتقط ما تناثر من ورق واستطرد: يعلمونكم ثقافة الادخار!.

 

حلّقت تلك الأمسية الحوارية في سماء الذكريات، كعديد من الأمسيات والمواقف والخبرات التي ينفحني بها أبي كلما رأى حدقتاي تتسعان تساؤلا، ولم تهبط إلى مدرج الاستعمال حتى درست الآية الكريمة: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير).

 

فالذين ينفقون أموالهم بإخلاص وثبات، كما قال ابن القيم: (والإخلاص والتثبيت عند النفقة هو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق زكاته) إعلام الموقعين 1/184.

 

هم كما قال الألوسي: (كمثل جنة بربوة: أي بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه هؤلاء بالزكاة بهذه الجنة واعتبر كونها بربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده، والوابل المطر الشديد، وآتت أكلها أي أعطت صاحبها أو الناس ثمرها ضعفين أي ضعفا بعد الضعف أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات فإن لم يصبها وابل فطل يكفيها، والمراد أن خيرها لا يخلف على حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها. والطل الرزاز من المطر وهو اللين منه).

 

وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله - تعالى -، لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله - تعالى -الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشيء عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة. وأحد الأمرين الوابل والطل. كما أن كل واحد من الأمرين الجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله - تعالى -بالجنة على الربوة. ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل. كما أن كل واحد من المطرين يضاعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطالب بها وجه الله - تعالى -. والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثير منهم الأضعاف لأجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الأضعاف لأثمارها، واختار بعضهم الأول وأبى آخرون الثاني فافهم والله بما تعملون بصير) روح المعاني 3/36.

 

هبطت ذكريات حصالتي.. حفاظي عليها، وحرصي على المال الذي أدخره فيها. كنت كثيراً ما أراجع نفسي عندما أهم أن آخذ منها شيئا لشراء مجلة، أو رباط للشعر، أو لعبة صغيرة، أو شيئا مما أحلم به. وكثيرا ما أذرف الدموع استعطافا لأمي ألا تأخذ منها شيئا، ولو على سبيل الاستلاف، وهبطت كذلك الكلمتان (أنفقه) و(ادخره)..عندها تبين لي تفريط والدي عندما تواطأ مع معلمتي..إذ كانوا يعلموننا ثقافة الادخار.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply