سلسلة اعترافات فتاة


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سامحني يا أبي..

كنت أشعر بحاستي.. أن هناك شيء ما سيحصل.. كل ما يدور تلك الأيام كان يدل على ذلك.. أبي ترك المنزل.. وأمي تبكي طوال الوقت.. وهمسات تدور هنا وهناك بين خالاتي.. واتصالات جدية بالهاتف.. ولم يطل الوقت قبل أن أصدم تماماً بما لم أتوقعه أبداً.. طلاق أمي وأبي..! كانت الخلافات بينهما كثيرة جداً.. وقد تعودت على ذلك منذ طفولتي.. لكن لم أتصور يوماً أن يتم الانفصال بينهما.. لا أستطيع أن أصف شعوري لحظتها.. حين أخبرتني خالتي بذلك.. رغم أني كنت في المرحلة الثانوية.. إلا أني شعرت بأني عدت طفلة صغيرة.. لا تعرف كيف تتصرف ولا كيف تنحكم في مشاعرها.. أغرقتني نوبة طويلة من البكاء.. لم أعرف كيف أوقفها.. وبقيت أبكي طوال ليلتين متواصلتين.. لم أكن قادرة على تصور فكرة أن ينفصل أبي وأمي عن بعضهما.. أن يتركنا أبي.. ويعيش بعيداً عنا.. لم أكن قادرة على تخيل مكانه الخالي على سفرة الإفطار كل صباح قبل ذهابنا لمدارسنا.. ولا قادرة على تصور المجلس خالياً منه حين يجلس كل مساء يحتسي القهوه ويقلبَّ أوراق صحيفته.. كنت لا أعرف لمن أشعر بالرثاء.. لأمي المسكينة التي صبرت كثيراً.. وضحّت.. وتحمَّلت منه الكثير.. ثم تفاجأ الآن بأنه قد تركها وحيدة.. أم أشعر بالرثاء لأبي المسكين.. الذي لا أعرف أين سيذهب الآن.. من سيعتني به.. ومن سيصحبه.. لقد تحمَّل أيضاً هو الآخر من أجلنا.. لكن شيئاً ما كان يجعلهما غير قادرين على العيش معاً.. كانا مختلفين تماماً.. في كل شيء.. وكانت حياتهما معاً كمزيج من الزيت والماء.. مهما امتزجا.. فإنهما لا يختلطان معاً.. أبداً.. كنت أشعر أني ضائعة ومشتتة بينهما.. لكن الطلاق.. لم أكن أفكر به أبداً أبداً..

 

* *وفيما بعد.. بعد أن انفصلا تماماً.. عشنا فترة طويلة ونحن نشعر بفجوة كبيرة في حياتنا.. كنت أشعر بحزن كبير تجاه أمي.. وتعاطف تجاه أبي.. لكني أيضاً.. كنت أكن لوماً وعتباً كبيراً على أبي.. فقد انقطع عنا تماماً.. ولم يحادثنا أو يسأل عنا لمدة شهرين كاملين.. ولكن بعد فترة.. بدأنا نتأقلم شيئاً فشيئاً مع الوضع.. انشغلت أمي في دوامها.. وانشغلنا نحن بدراستنا وهواياتنا.. ورغم أن الجرح كان لا يزال في قلبي.. لكني بدأت أعتاد على لفجوة التي خلَّفها غياب أبي عن البيت.. وذات مرة اتصل علينا أبي.. وحادثني.. فلم أستطع أن أتحدث.. كنت مشتاقة له جداً.. وأحبه كثيراً.. لكن.. كنت أيضاً عاتبة عليه.. إذ تركنا هكذا ونسينا ولم يسأل عنا منذ عدة أشهر.. شعرت بشيء يخنقني، فلم أستطع أن أنطق حرفاً واحداً.. وأخذت أبكي وأبكي حتى سقطت السماعة من يدي.. ولم أتذكر من نبرات صوته الدافئ سوى (ربا.. كيف حالك؟.. لقد اشتقت لكم)لم أكن أعرف من ألوم على من ألقي ذنب هذا الطلاق.. ولم أجد سوى ربي لألجأ إليه بالدعاء أن يكتب لنا كل ما فيه خيرنا..

 

* *وفي المدرسة كنت أعاني من الداخل.. لم أكن قادرة على التركيز ولا المشاركة في الفصل.. لكن أي معلمة لم تقدّر ظروفي.. لأني لم أجرؤ على مصارحتهن بما حصل.. ولم يسألنني بدورهن عن أية مشاكل قد أواجهها.. ولم أعد أحب أن أجلس مع زميلاتي كثيراً.. بل أصبحت أؤثر الوحدة أو الجلوس بصمت بينهن.. كنت أشعر أن في داخلي.. تفكيراً أسود.. يجعلني أحقد أو أغار من كل زميلاتي حين يتحدثن عن آبائهن، وعن نزهاتهن الأسرية. حين تقول إحداهن: (ذهبت مع أبي بالأمس إلى.. ) كنت أشعر بمس كهربائي يلسعني بقوة في صدري.. وكنت أقول لنفسي كثيراً.. ما هذا يا ربي.. هل أصبحت شريرة لهذه الدرجة؟ أيعقل أن تحقدي عليهن فقط لأن لديهن آباء؟ وكنت أستغفر الله في سري دائماً.. لكن ذلك الشعور كان أقوى مني.. وكنت أشعر دون إرادتي أني أتمنى لو كنت مكان أي واحدة منهن.. أو.. أحياناً.. كنت.. كنت أتمنى لو يتطلّق آباؤهم وأمهاتهم كما حصل لي.. كنت أتمنى أن يذوقوا ما ذقته.. وأن يعيشوا مأساتي..

**بعد مدة.. اتصل أبي مرة أخرى.. وحاول محادثتي.. لكني رفضت.. كنت أتمنى في سري أن أحادثه وأعرف أخباره.. كنت أحبه كثيراً.. لكن.. كنت عاتبة عليه جداً.. لأنه تركنا هكذا.. بكل سهولة ورحل.. وحاول أبي عدة مرات زيارتي أو محادثتي.. لكني وبلا إرادة مني.. كنت أرفض بشدة.. وازداد تعنتي أكثر وأكثر حين علمت أنه سيتزوج.. شعرت بأنها الطعنة الأخرى التي يوجهها أبي لنا.. شعرت بأنه يفعل أمراً خطأ.. أمراً معيباً له.. كيف يتركنا ويتجاهلنا.. والآن ويذهب لامرأة أخرى؟ كان تفكيري متجمداً تماماً وغير قابل للتغيير بدأت أشعر أن أبي هو سبب ما نعيشه من تشتت.. فصببت جام غضبي عليه.. لكن ذات مرة وبعد زواجه أصر على رؤيتنا وأخذنا معه في زيارة لرؤية زوجته الجديدة.. وحين رفضت هددنا بأخذنا من والدتنا خاصة وأننا بنات.. وانصعت لأمره.. وكان لقاء جامداً.. تجاهلته فيه تماماً.. رغم أنه كان محملاً بالهدايا لنا.. وكان المسكين مشتاقاً جداً لنا.. كنت أشعر أني حانقة عليه بشدة.. شيء لا يمكن وصفه.. أحبه.. ومشتاقة إليه.. لكن عاتبة وغاضبة إلى أبعد حدٍ, عليه.. لدرجة أني لا أريد حتى رؤيته أو الجلوس بقربه.. كنت أشعر أنه لي.. أبي.. أبي لنا.. فلماذا يتركنا ويرحل.. نحو امرأة أخرى.. وحين رأيتها ومدت يدها للسلام عليّ.. أدرت وجهي عنها ومددت يدي ببرود.. وملامح وجهي تزدريها بشدة.. حاولت أن تتحدث معنا بطيبة، وأن تستدرجنا في الحديث.. لكني كنت أصوب نظراتي الحادة تجاه أخواتي الصغار حتى لا يتحدثن معها.. وكنت قد هددتهن قبل قدمونا حتى لا يتجاوبن معها ولا مع أبي.. شعر أبي بخيبة أمل.. وأعادنا بهدوء بالسيارة دون أن نتبادل حتى كلمة واحدة.. وحين وصلت إلى المنزل.. أسرعت نحو غرفتي.. وأخذت أبكي بحرقة.. كنت أعلم أني أحبه ولا أود أن أعامله هكذا.. ولكن لا أستطيع.. لم أعرف لماذا كنت أبكي بالضبط.. لكني شعرت بحرقة في صدري.. وددت لو أصرخ بشدة حينها.. تمنيت لو أفتح عيني فأجد نفسي قد استيقظت من حلمٍ, مرعب.. ويعود أبي إلينا.. هنا.. كما كان من قبل.. أبي الذي نحبه ويحبنا.. ولا يحب أحداً غيرنا.. لكن.. هيهات..

 

 * *وذات مرة.. سمعته.. كان شريطاً رائعاً.. عن بر الوالدين.. كنت عائدة من المدرسة.. وسمعته في سيارة خالي.. شعرت بأنه هزني من الأعماق وأيقظني.. وفجأة أحسست بأني حقيرة.. وصغيرة جداً.. وأتفه من أي مخلوق على الأرض.. أيعقل ما قمت به؟ فقط لأن الله لم يكتب لوالديَّ أن يعيشا معاً.. أقرر مقاطعة أبي ونسيان كل أفضاله عليّ؟.. هل لمجرد كونه انسحب بهدوء من حياتنا فإنني أشن عليه حرباً شعواء..؟ إنه لم يسيء إلينا بأي شكل.. لم يقصر في حقوقنا.. ولا تربيتنا ولم يبخل علينا يوماً بأي شيء نحتاجه حتى بعد أن تركنا.. بل إنه يحاول أن يرانا وأن يأخذنا لزيارته.. بينما أنا أرفض؟!! هل هذا عدل؟.. كم أنا غبية ومتعجرفة.. إنه السبب بعد الله في ظهوري لهذه الحياة.. وهو من سهر وقلق على راحتي حين مرضت وهو من حرص على تدريسي ورعايتي في الصغر.. وبعد كل هذه الأفضال.. أعاقبه لمجرد كونه اضطر لأسباب قاهرة أن ينفصل عن أمي؟! بدأت أعيد حساباتي وأفكر من جديد.. وشعرت بحنين كبير لوالدي.. وخفت أن يقبض الله روحي قبل أن أرضيه عني.. نعم لابد أنه لا يزال متضايقاً لما واجهته به من جفاء.. وما أن وصلت إلى المنزل.. حتى أسرعت ورفعت سماعة الهاتف واتصلت عليه.. - أبي.. أبي.. أنا آسفة.. أرجوك سامحني.. - ربا.. ماذا هناك.. ما بال صوتك هكذا.. هل حصل شيء؟ - أبي.. أنا أحبك.. أقسم بالله أني أحبك.. لكن.. لا أعرف لماذا.. وانقطع صوتي لأني لم أعد أعرف ماذا أقول وشهقات البكاء تخنقني.. فصمت قليلاً ثم قال.. وأنا أيضاً أحبك يا ابنتي.. وأعرف تماماً لماذا كنت تتصرفين هكذا.. أعرف أن الأمر شديدٌ عليكن.. ولكن هذا قدر الله.. ماذا أفعل.. أنا أحبكن يا ابنتي وسأظل أحبكن.. ثقي بذلك.. - هل أنت راض عني إذاً.. - نعم بارك الله فيك.. بعد ذلك.. تغيَّرت أشياء كثيرة في داخلي.. ولم أعد أشعر بذلك الحزن وتأنيب الضمير الذي كان يخنقني.. أصبحت حياتي أكثر إشراقاً وراحة.. أصبحت أحرص على بَّر أبي وصلة رحمه وأحاول إرضاءه عني بكل الوسائل..

 

* *قبل شهر أنجبت زوجة أبي طفلاً.. شعرت لوهلة بشيء من الغيرة لأنها أنجبت ولداً بينما نحن كلنا بنات.. لكن أبي قال لنا بالحرف الواحد وأمام زوجته.. - ثقي يا ربا.. أن أحمد لن يكون أغلى من أي واحدة منكن.. ووالله أني لن أفضله بأي شيء عليكن، فكلكم أبنائي ولا فرق بينكم.. فشعرت بارتياح جميل.. وكانت زوجة أبي طيبة جزاها الله خيراً حين سمحت لي بأن أضعه في حضني وأحمله بكل ثقة.. لأبدأ مرحلة جديدة من حياتي وصفحة بيضاء صافية.. لا مكان فيها للحقد والكره إن شاء الله.

 

-2-

كلا.. أنا أشعر!

ثلوى.. ! ثلوى.. هيييه... هكذا تستقبلني مرام كل يوم حين أقدم من المدرسة.. ثم ترتمي عليَّ لتحضنني. لم أكن أهتم بها بصراحة.. ولم أكن أرحب بهذا الاستقبال الحار الذي تستقبلني به كل يوم وأنا منهكة بعد عودتي.. وذات مرة حين انقضَّت على حقيبتي لتبحث فيها عن أي حلوى.. أوقعت كتبي على الأرض.. فصرخت في وجهها بشدة.. وضربتها دون أن أفكر.. كنت غاضبة جداً بعد أن رفضت مدرسة علم الاجتماع إعادة الاختبار لي وتجادلت معها بحدة.. ولم يكن ينقصني بعد يوم دراسي منهك أن أنحني لجمع كتبي المتناثرة من الأرض. تجمدت مرام.. ونظرت إليَّ بجمود حين ضربتها.. دون أن تتنفس بكلمة أو حتى تتألم.. فأسرعت والدتي تؤنبني بشدة.. حرام عليك يا سلوى!.. تضربين هالمسكينة؟! - أفف.. لقد مللنا هذه الأسطوانة.. مسكينة.. مسكينة.. وما ذنبنا نحن؟ ولماذا تخافين على مشاعرها لهذه الدرجة؟ انظري إليها.. إنها لا تشعر أصلاً.. !! كنت أعلم أن كلمتي هذه ستجرح أمي التي لا زالت تعتقد أن مرام طفلة شبه طبيعية.. وترفض الاعتراف بأنها متخلفة بالمعنى المعروف.. صمتت أمي تماماً وهي لا تزال تحتضنها... بينما أسرعت أواري بصري عن المنظر بالهروب إلى غرفتي.. لا أعرف ما الذي جرى لي.. كيف ضربتها هكذا وقلت لأمي ما قلت.. لكن.. أنا معذورة.. نعم فقد مللت.. مللت اهتمام أمي الزائد والمبالغ فيه بها.. إنها تدللها وتحنو عليها أكثر من أي فرد منا استغفر الله العظيم.. ليت الله يأخذ أمانته فيها لنرتاح نفسياً واجتماعياً.. أمي لا تنفك عن التفكير طوال الوقت في مصيرها.. ودائماً تردد أمامي وصيتها لي في الاهتمام بمرام والعناية بها، بعد وفاتها... إن هذا الشعور يجلب لي المرض.. لقد مللت من هذا الحزن الذي تصر أمي على إغراقنا فيه بسببها.. لقد حرمت نفسها من الذهاب للكثير من المناسبات الاجتماعية والنزهات والسفر من أجل مرام.. حتى زواج ابن خالتي لم تذهب إليه لأني رفضت أن تذهب إليه مرام معنا.. هذا ما كان ينقصنا.. أن نأخذها لتبدأ في الضحك والسلام على كل الحاضرين بفرح وبلادة ثم تبدأ حركاتها المضحكة.. أمي أثارها رفضي هذا.. وقررت ألا تذهب في حال لم تذهب مرام.. كان بإمكانها أن تتركها مع الخادمة ولو تلك الليلة فقط.. لكن أمي.. تصرّ على تعقيد الأمور وبث الحزن والتعاسة في كل موضوع له علاقة بمرام.. يا الله.. متى تقتنع أمي أن مرام المسكينة لا تفهم ولا تشعر بشيء.. إنها لم تكن لتشعر بحزن أو سعادة سواء أذهبت لذلك الحفل أو غيره أم لم تذهب..

يطرق معاذ باب غرفتي ليوقظني من النوم.. - هيا استيقظي.. لقد أذن المغرب.. أقوم ببطء.. أشعر أني منهكة ومتضايقة جداً.. أتوضأ وأصلي.. ثم أبدأ في حل واجباتي.. أفتح دفتر الكشكول الخاص بالهوامش.. فألمح على آخر صفحة منه رسمة.. يبدو أنها إحدى (شخاميط) مرام.. أنظر إليها بهدوء.. إنها رسمة بيت حوله أشجار.. أدقق فيها.. لم أكن أتصور أنها تستطيع رسم صورة كهذه.. لابد أن معاذ علمها.. ألقي الدفتر جانباً وأبدأ في حل واجباتي الكثيرة.. وفجأة.. أطلت مرام برأسها الكبير من طرف الباب.. ضحكت.. ماذا لديك؟.. ادخلي.. ماذا تريدين؟.. دخلت بهدوء ونظرت إليَّ ثم جلست على الأرض.. يبدو أن منظر الدفاتر والأقلام قد أغراها كثيراً.. هجمت على أقلامي وأمسكتها.. ثم أمسكت أحد الدفاتر وهي تنظر إليَّ بخوف.. أرثم؟!.. - كلا... كلا.. إعطيني إياه.. هذا للمدرسة.. استسلمت وتركت الأقلام من يدها.. ثم قامت نحو مكانها المفضل.. تسريحتي.. صعدت على الكرسي.. وأخذت تطلٌّ على وجهها في المرآة.. ثم التفتت برجاء وهي تمسك أحد أقلام الشفاه.. - ثلوى.. ممكن؟ لا أعرف لماذا تعاطفت معها هذه المرة.. إنها مؤدبة جداً اليوم.. - حسناً.. استخدمي هذا فقط.. ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهها وأسرعت تضع اللون على شفاهها بفرح.. عدت لإكمال واجباتي.. وانهمكت فيها.. حين لاحظت بعد قليل هدوءها.. التفتّ إليها.. فوجدتها تتأمل نفسها بعمق في المرآة.. أخذت أراقبها.. كان تنظر بهدوء.. مرة تبتسم ومرة تقطب جبينها ومرة ترفع رأسها.. وفجأة تحدثت وهي تنظر لنفسها بصوت يائس أسمعه منها لأول مرة.. - أنا (مو حلوة).. ! صدمتني العبارة كثيراً.. وأخذت أنظر إليها بعمق.. شعرت بعطف كبير عليها.. لقد بدأت تعرف أن شكلها يختلف عن الآخرين.. عادت بي الذاكرة إلى عشر سنوات خلت.. حين كنا مترقبين لخبر ولادة أمي في المستشفى.. إنها بنت.. يا سلام.. أخيراً أصبح عندي أخت.. الحمد لله.. أتت مرام بعد أربع أخوة ذكور.. ففرحت بها جداً.. حتى.. وصلنا الخبر... إنها غير طبيعية.. كيف؟. تضخم في القلب.. و.. ماذا؟! إنها منغولية.. كنت لا أزال صغيرة ولم أفهم فتساءلت... ماذا يعني منغولية؟.. يعني يا سلوى.. إنها مختلفة قليلاً.. سيكون من الصعب عليها اللعب كثيراً.. أو الكلام بسهولة.. كما أن تفكيرها.. سيكون أقل من أقرانها.. ؟ سكتت وأنا أنظر للدموع التي تلمع في عيني أبي.. وحين رأيت مرام لأول مرة.. عرفت كيف أنها مختلفة.. كانت بيضاء وجميلة مثل كل الصغار.. لكنها كانت مختلفة.. لم تكن تشبهنا. وشيئاً فشيئاً حين كبرت بدأت ملامح التخلف تظهر واضحة عليها.. يقول الدكتور أن الأشخاص المنغوليين لا يعيشون طويلاً.. إنهم يموتون في سن مبكرة.. غالباً في العشرينات.. أو الثلاثينات من أعمارهم.. لكن مرام كانت منذ صغرها تعبَّر عن حلمها بأن تصبح عروسة.. مسكينة.. إنها لا تعلم.. كنت دائماً قاسية معها.. كنت أشعر بأنها عبء كبير علينا.. كما أنها تشعر.. سواء أصرخت عليها أم شتمتها.. فإنها لا تشعر ولا تتأثر أبداً.. بل إنها لم تبك يوماً في حياتها.. لكن الآن.. إنها تقيَّم نفسها.. بدأت تشعر أنها غير طبيعية.. وأن ملامحها مختلفة.. أنا (مو حلوة) أنا (مو حلوة).. أخذت تتردد في ذهني طويلاً.. وشعرت بعطف كبير عليها.. حين اقتربت مني بهدوء وهي تشير بإصبعها السبابة إلى وجهي حتى كادت تلامسه.. - ثلوى.. حلللوة.. ! لأول مرة شعرت بأنها بحاجة لمن يضمها.. فاحتضنتها بعطف كبير.. فإذا بها تتمتم في صوت هامس ورأسها على رقبتي وكأنها تحادث نفسها.. وتعيد حواراً قديماً سمعته من قبل.. - ملام.. مو.. حلوة.. لا.. لا!! ملام مو حلوة.. ما تجي عند الحليم.. (مرام غير جميلة.. لا.. يجب ألا تدخل عند الحريم). توقفت قليلاً.. وأخذت أفكر في كلامها.. إنها.. إنها تكرر كلامي.. نعم إنه كلامي لأمي قبل شهر حين أتانا بعض الضيوف.. نعم.. كنت غاضبة ورفضت أن تسمح لها أمي بالدخول إلى المجلس.. أذكر أني قلت بالحرف الواحد أمامها.. (كلا يا أمي.. لا.. لا تحرجينا أمامهم بصراحة مرام شكلها (يفشل).. لا تتركيها تدخل على الحريم أرجوك.. ولم أهتم يومها بأن مرام المسكينة كانت واقفة أمامي.. كنت أعتقد أنها لا تفهم ولا تشعر.. لكنها.. حفظت ذلك الكلام.. لا زال في قلبها.. إنها تردده.. اليوم.. مسكينة يا أختي الحبيبة. كل ذلك كان في قلبك الصغير المريض.. وأنا لا أعرف.. احتضنتها طويلاً.. وأنا ألمس شعرها.. وهي لا تزال تردد الحوار الهامس في هدوء.. ثم تضيف محادثة نفسها.. (ملام.. وع.. ولا تفهم!..)وشعرت بدموع ساخنة تنساب على وجنتي وأنا احتضنها بقوة.. يا حبيبتي يا مرام.. كل هذا.. وأنا لا أعلم.. تشعرين بكل هذا وأنا لا أشعر.. يا لي من إنسانة قاسية وشريرة.. كيف عاملتك هكذا.. أستغفر الله.. كيف تمنيت لك الموت ظهر هذا اليوم. يا حبيبتي الغالية.. أعلم أنك لن تعيشي طويلاً.. وإن عشت.. عشت محرومة من الكثير مما يستمتع به بقية الأطفال.. ومع هذا أتمنى لك الموت؟!.. كم كنت سخيفة حين كنت أخجل منك وأشعر بالحرج من الاعتراف بوجودك للآخرين.. أنت والله يا مرام.. أفضل وأطيب وأنبل من آلاف الأسوياء الذين تجمدت قلوبهم.. تحملت كل تلك القسوة والجفاء مني في قلبك وتغاضيت عنه.. أنت الأجمل يا مرام.. نعم.. أنت أجمل من الكثيرات بقلبك الطاهر البريء.. - لا.. مرام حلوة.. حلووووة.. نظرت إليَّ بتعجب واستغراب.. ملام حلوة؟! - نعم مرام أجمل فتاة في الدنيا.. ! استغربت وهي تنظر إلى عيني.. ولمعت عيناها بفرح غامر لم أرَ مثله على وجهها.. ثم ضحكت ضحكتها الطفولية التي أراها لأول مرة بهذا الجمال وهذه البراءة والنقاء.

 

-3-

على الشاطئ..

شاطيء جدة يصبح ساحراً في أواخر الشتاء.. الريح البحرية المنعشة تهب برقة.. محملةً برائحة تذكرني بقصص السندباد.. والأضواء تتراقص على صفحات الموج وكأنها مدينة عجيبة تحت البحر.. أفتح رئتي لأستنشق المزيد من هذا الهواء المنعش.. علّ رطوبته تروي شيئاً من ظمأ في صدري.. فجأة.. شعرت بشيء أملس ينساب فوق خدي.. تلمسته.. إنها دموع.. انساب المزيد منها حتى وجدت نفسي أبكي كطفل صغير تائه.. ولا أعرف كيف ولا لماذا.. انتبهت لأصوات أخوتي وأبناء خالتي الصغار وهم يلعبون حولي.. فأخفضت صوتي.. وأخذت أنشج بهدوء.. دون أن يشعروا.. - (سماح).. هيا يا ابنتي.. تعالي اتعشي.. - لا أريد يا أمي.. أصرّت أمي وخالتي عليّ لكني أشرت لهما بأني شبعى ولا أريد.. وبقيت في مكاني على الشاطئ.. شيء ما كان يقض مضجعي ويحرمني السعادة والتمتع في الحياة.. شيء أعرفه جيداً.. إني أغرق فيه.. كما قد يغرق طفل في أعماق هذا البحر.. الفرق.. أن الطفل يستطيع أن يصرخ حينها ويطلب المساعدة.. قد يلوح بيده هنا وهناك طلباً للنجاة.. لكن أنا.. أغرق بصمت وهدوء.. دون أن يشعر بي أحد.. ودون أن أستطيع أن أبوح لأحد.. أشعر بالعطف على نفسي المسكينة كم تحملت وهي لم تجاوز عامها السادس عشر.. كم عانت وخافت وبكت وهي لم تزل في بداية حياتها.. كل ذلك.. بسبب (حنان).. نعم.. إنها السبب.. هي التي زينت لي هذا الطريق الشائك.. هذه الـ.. كلا.. بل إن أمي هي السبب.. نعم.. أمي التي لم تهتم بي يوماً ولم تحبني.. لقد تركت لي الحرية المطلقة دون أن تسأل عني أو حتى تشك بي ولو للحظة.. ألا تعلم أني بشر.. ضعيفة.. لماذا لم تحتويني يوماً ولم تسألني عن مشاكلي.. لِمَ لم تسألني يوماً إلى أين أذهب مع السائق ومع من كنت أخرج؟..

لماذا يا أمي.. لماذا لا تحبيني وتحرصين عليّ.. لم أشعر أن أحداً يحبني.. حتى احتواني هو.. شعرت أني وجدت كل ما أحتاجه لديه.. الحب والحنان والرقة.. كنت غبية.. كلا! لم أكن غبية لهذه الدرجة.. أي فتاة مثلي كان بإمكانها أن تصدق ما قاله لقد كان مؤثراً في كل كلمة قالها.. كيف لي أن أعرف أنه لم يكن كذلك؟

إنه ليس ذنبي أن صدقته.. ربما.. هو ذنب.. لا أعرف! أحببته من كل قلبي.. ومنحته قلبي البريء المتعطش.. ورغم جفائه لا زلت غير قادرة على كرهه.. فلماذا تركني.. لماذا فعل بي هذا؟ لماذا حطّم قلبي وتركني ضائعة.. أتخبط باحثة عمن يحتويني بعده؟ استمريت في البكاء مدة طويلة.. حتى مر بائع البالونات.. وحوله بعض الأطفال.. - مدام.. فيه صرف خمسين ريال.. ؟ رفعت رأسي.. نظرت للبالونات الملونة.. ووجوه الأطفال البريئة حوله.. تنتظر صرف المبلغ.. ابتلعت عبراتي.. وأدخلت يدي في حقيبتي.. هذه ورقة عشرين ريال.. وهذه ورقة عشرة.. مم.. ماذا يوجد أيضاً.. هذه ورقة.. ! أوف.. إنها صورته.. جعدتها بيدي واستمريت أبحث.. نعم.. هذه ورقة عشرين أخرى.. الحمد لله! - تفضل.. - شكراً مدام.. وناولني ورقة الخمسين.. لحظة.. لو سمحت إديني وحدة.. !! - حملق البائع فيّ للحظة وأنا أناوله المبلغ بكل جدية.. ثم ما لبث أن ناولني واحدة.. وأكمل سيره.. كانت البالونة حمراء جميلة.. على شكل قلب.. لوهلة شعرت بأنها قلبي الضائع الذي ذاب كمداً.. أمسكتها بيدي.. ثم ساورتني رغبة طفولية في أن أدعها تطير عالياً.. وأرقبها من هنا.. نظرت إليها طويلاً وضممتها.. ثم.. أطلقت يدي وتركتها تطير.. بدأت تطير بهدوء وأنا أرقبها.. شعرت في تلك اللحظة أني أحرر قلبي من سجن هذه العلاقة.. شعرت أني أحرر قلبي من سلطانه الظالم عليّ.. حين استغل طفولتي ونقاوتي ورقة قلبي.. وجعلني أسيرة لأحرف اسمه.. ترى.. أي حب هذا كان عليّ أن أتلظى بناره خلف أسوار الخوف والتردد وتأنيب الضمير.. أكان لهذا الحب أن يعيش.. ؟ كان يجب أن أعلم يقيناً منذ البداية أنه سيموت لحظة ولادته.. لأنه حب كاذب وغير شرعي..

توقفت للحظة عن هذا التفكير.. وأخذت أنظر إلى البالونة وهي تطير نحو السماء.. سبحان الله.. كم هي جميلة.. ضوء القمر انساب على هذه الغيوم فأكسبها غلالة رائعة.. والبالونة تطير.. وتطير.. ثم تخترق الغيوم.. وتطير.. عاااااالياً.. حتى اختفت.. فكرت لوهلة.. وماذا خلف هذه السماوات.. ماذا هناك.. سرت في جسمي قشعريرة غريبة.. حين تخيلت أن الله فوقنا الآن.. إنه ينظر إلي.. في هذه اللحظة.. ويعلم بكل ما يتردد في سري.. فانتابتني خشية لم أشعر بها من قبل.. سبحان الله..

إنه ينظر إليّ الآن.. وقد كان ينظر إلي منذ ولدت.. وحين كنت أحادث طارق في الهاتف.. وحين كنت أخرج معه.. يا الله.. كان الله ينظر إليّ في كل لحظة.. لكنه أمهلني.. وصبر عليّ وهو الصبور الكريم.. أكرمني ورحمني.. ولم يعجّل بعقابي أو بموتي حتى أموت وأنا عاصية.. تذكرت فجأة قصة روتها لنا معلمة فاضلة.. حين قالت.. أن سيارة أصيبت في حادث ومات من فيها.. وحين أخرجوهما وجدوهما فتاة وشاب.. فتخيلوا الموقف حين يحضر الأب والأهل.. ويعلموا أن ابنتهم ماتت وهي خارجة مع شاب.. ! فضيحة في الدنيا والآخرة.. توقفت لوهلة وتخيلت لو كنت أنا مكانها.. كيف سأسوّد وجه أبي وأمي وعائلتي.. وقبل كل ذلك.. كيف سيكون مصيري وموقفي.. هناك.. أمام الله؟

يا الله.. الحمد لله.. أن كتب لي النجاة من هذه العلاقة.. الحمد لله أني نجوت منه قبل أن يحصل ما لا يحمد عقباه.. الحمد لله أن رحمني ولطف بي وأمهلني حتى هذه اللحظة.. شعرت بانتعاش يسري في قلبي وكأنه عاد للحياة من جديد.. وبدأ ينبض بصوت الحياة.. أدخلت يدي في حقيبتي.. وأخرجت صورته.. نظرت إليها طويلاً.. أيها القاسي.. كيف استطعت أن تعبث بقلب فتاة مثلي بكل برود.. كيف كنت تدعي الحب الصادق والعشق.. وأنت أبعد الناس عنه.. ؟! ابتسمت حين تذكرت عبارات حبه.. وأنا أتذكر لحظة اكتشافي لعلاقته بإحدى صديقاتي في نفس الوقت! أشعر بالعجب حقاً كيف كان لي أن أصدقه طوال تلك المدة.. وأصدق أعذاره وحججه.. نظرت مرة أخرى.. يا الله! خلف ذلك المظهر الوسيم أكان يختفي شخص آخر.. كم كنت بلهاء حين عشقت القناع.. وبعت من أجله راحتي وهدوء نفسي.. بل بعت ديني.. حتماً إنك لا تستحق سوى الرثاء أيها الـ.. توقفت عن التفكير.. شخص مثله لا يستحق أن أخسر دقيقة في التفكير فيه.. مزقت صورته مزقتها تماماً.. إلى قطع صغيرة.. رميتها على الأرض ثم وقفت لأطأها برجلي.. شعرت في هذه اللحظة أني أرمي القيد الذي كان يكبلني ويحرمني السعادة..

الحمد لله.. يا الله.. اغفر لي وتب عليّ.. يا الله.. كم أنت رحيم وكريم.. أمهلتني وصبرت عليّ وأنا أعصيك.. فامنن عليّ بعفوك ومغفرتك وأنا عائدة إليك..وفجأة..شعرت بقرصة جوع، فقمت من مكاني لأجري نحو أمي وخالتي.. بقي شيء من العشاء؟ أنا جائعة! وخلفي.. تهادت موجة ماء قوية غمرت مكان جلوسي.. وابتلعت بقايا صورته..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply